وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها (أي المشورة) ولكن جعلها الله رحمة لأمتي
فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غَيًّا).
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة
بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكمًا في حادثة إلا بعد
أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصًا صريحًا ينطبق على
الحادثة قال: (الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا).
وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين
والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد
بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شوري بينهم كما صنع الخليفة الثاني أو يتركه
لآراء المسلمين عامة كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم اعتمادًا على ما تفرسه في
عمر من الكفاءة والمقدرة وحذرًا مِن أنْ يتنازعها ذوو الأهلية فتثور ثائرة الفتنة
ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين.
ونحا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الجادة شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع، قال مِن خطبة أرسلها في هذا الغرض: كذلك يحق على المسلمين أن
يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، ثم قال ومن قام بهذا الأمر فإنه
تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم، وهذا إيماء إلى الحكم النيابي ويدل له
من كتاب الله قوله تعالى] وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [(آل عمران: 104) وضع الإسلام
أساسه وبنى عليه الخلفاء سياستهم ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ
شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية
طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة.
وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة
من كبراء الصحابة ليختاروا رجلاً منهم، وقال لهم: ويحضركم عبد الله بن عمر
مشيرًا وليس له من الأمر شيء، وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم
في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى مِن جعْل نظامها مُؤلفًا من العدد
الفرد ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف ويُلَوِّح إلى هذا بطرْف خفي قوله
تعالى] مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى
مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ [(المجادلة: 7) فذكر العدد الفرد صراحة
والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس
المؤلفة للمناجاة.
هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج ويعتبر أحد أفراد اللجنة
بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسًا لها فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند
التساوي والدليل على صحته شرعًا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري:
(إن الله أعز بكم الأنصار فاختر خمسين رجلاً من الأنصار وكنْ مع هؤلاء حتى
يختاروا رجلاً منهم، ثم قال له وإن رضي ثلاثةٌ رجلاً ثلاثةٌ رجلاً فحكِّموا عبد الله بن
عمر فإن لم يرضوا بعبد الله فَكُونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف).
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس
حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين
قال الله تعالى] قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى
تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ *
قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [
(النمل: 32 - 34).
ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملائه قال الله تعالى
] قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ [(الأعراف:
109 - 111) وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملائه لم تطرد على أساس صحيح
¥