تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعًا عند العرب نادرًا في عصر المولدين، ولا

يعترض هذا بأن كثيرًا من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة كما فعل زهير في

حولياته لأنه يستوفيها في أمد قريب ويتمها على شرط الصحة ولكنه لا يخرجها

للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي وإعادة النظر في تقويم معانيها وحسن النسق

في بنائها وإحكام قوافيها لا ليخلصها من اللحن ويطبق عليها أصول العربية كما هو

شأن المُحْدَثِينَ.

ثم نشأ بهذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من

أسباب حسنها هو أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء

وخطبهم وحسروا اللثام عن وجه بيانها فأبصروا فيها محاسن من فنون البديع

كالاستعارة والجناس والتورية فَشُغِفوا بها وثابروا على إيرادها في منظوماتهم توفيرًا

لحسنها واستزادة من التأنق فيها فكان الناس يقولون: إن أول مَن أفسد الشعر مسلم بن

الوليد وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها:

طلل الجميع أراك غير حميد

فقال إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر

من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه، وما تعاصى فهمها على

الأعرابي إلا لكونه سمع شعرًا حُشِي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب

المألوف فثقل تأليفه وبَعُد عن الأفهام تناوله.

واتبع طريقهما كثير من الأدباء وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى

مخالفة قانون العربية وتغيير بنية الكلمة من أجلها كقول بعضهم:

انظر إليَّ بعين مولى لم يزل يولي الندى وتلافِ قبل تلافي

فكأنه زاد في مصدر تلف ألِفًا يتم له الجناس مع قوله تلاف ولا نعرف في كتب

اللغة من ذكر التلاف مصدرًا لتلف وإنما يوردون في مصدره التلف بدون ألف.

ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر بل تعدى وباؤها إلى النثر

أيضًا فطفق كثير مِن الكُتَّاب يملأون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس

ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها حتى إذا ما تلقيت صحيفة من

هذا القبيل وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة أدركته عند كل فقرة حبسة

والتَوَتْ أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية فتحس به كيف ينتقل مِن

كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حُمِل على قيد مِن حديد، وأكثر هؤلاء يهملون

النظر إلى جانب المعنى والمحافظة عن إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد

القاهر الجرجاني حين قام ينادي بأبسط عبارة أن الألفاظ خدم للمعاني وأن المعاني

مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة [1] على

أن مَزيَّة الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ ووصفت بها من جهة معانيها وأزال كل

شبهة عرضت لِمَن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه.

وأدرك غالب المحررين اليوم أن تتبع هذه الحسنات ومواصلة العمل بها في

نظم الكلام يُبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بيانًا

فأقلعوا عن الإكثار منها لاسيما في خطابات الجمهور وزهدوا فيها إلا ما سمح به

الخاطر عفوا ورَمَتْه الطبيعة بدون كلفة ظاهرة.

وكانت اللغة من خلال الأَعْصُر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء

المعمورة على حسب كرم الدولة وعناية رجالها بالفنون الأدبية فارتفع ذكرها حين

كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو وينقد شعر

أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب.

وارتقي شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله

عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة وشرع يخطب من حيث وقف أبو

علي البغدادي وانقطع به القول فوصل منذر افتتاح أبي علي بكلام عجيب وأطال

النفس في خطبة مرتجلة فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة وارتواء لسانه من

اللغة الفصحى ولا مِرْيَة في أن كرم الدولة باعث على ارتقاء حال اللغة عند من

التفت إلى التأريخ وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب وملوك

آل جفنة وملوك لخم كزهير والنابغة وبين مَن تقدمهم مِن الشعراء.


(*) بقلم الشيخ محمد الخضر ين الحسين من العلماء المدرسين بجامع الزيتونة بتونس في مسامرته
(حياة اللغة العربية).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير