فنسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد
فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطًا، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي
أخرس بفصاحته لسان كل منطيق.
ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من ينابيع الفصاحة
وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة عن الغرض بدون تكلف، رُوي أن أبا
بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد طُفْتُ في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح
منك يا رسول الله، قال (وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد وبنو سعد
أفصح قبيلة في العرب بعد قريش).
وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الاستشهاد بالحديث لأن رواته لم يَجْمعوا
عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يتثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل
العربية من رواية حديث بلفظه كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته صلى الله
عليه وسلم لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقينًا.
ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم
السامية وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل والتئام بعضها ببعض من الأفكار
ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلائها بالمعار مما يُرَقَّي مداركها
ويزيد في تهذيب ألمعيتها فتقذف بالمعاني المبتكرة وتبرزها في أساليب مستحدثة
فإن، كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة والتأنق في سياقها ويُوَضِّح لكم
هذا أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة
وأهدى إلى العبارات الحسنة مِمَن يعادلهم في جودة القريحة وفصاحة المنطق بفطرته
لاشتمال المدن على معانٍ شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا
المشاهدة.
ولما فارقت العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام وبث تعاليمه بين الأمم
اقتضت مخالطتهم لِمَن يُحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم ودخول التغيير عليها
في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد
الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأشار على أبي الأسود الدؤلي
بوضع علم النحو ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا
عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها وبين غوائل الضياع والاضمحلال
وحين انتشرت المخالطة وتفشى داء اللحن أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام
معاصريهم من العرب ويعدون أول المحدثين الذين لا يستشهد بأقوالهم بشار بن
برد المتوفى سنة 167 واحتج سيبويه بشيء مِن شعر بشار بدون اعتماد عليه وإنما
أراد مصانعته وكف أذايته حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره كما استشهد أبو علي
الفارسي في كتاب (الإيضاح) بقول أبي تمام:
مَن كان مُرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولا
وليس مِن عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام لأن عَضُد الدولة كان يُعجب بهذا
البيت وينشده كثيرًا.
واستشهد صاحب الكشَّاف عند قوله تعالى:] وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [
(البقرة: 20) ببيت من شعر أبي تمام، وقال وهو وإن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره
في اللغة فهو مِن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، فيؤخذ من
صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة وليس مذهبه
هذا بسديد وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح فإن التكلم بالعربية
الصحيحة لعهد أبي تمام ناشيء عن ملكة تُستفاد مَن تعلم صناعتها ومدارسة قوانينها
فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين فلا يأمن
أن يَزِلَّ به لسانه في خطأ مبين، وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها
عن مقاييس العربية قال ابن الأثير لم أجد أحدًا من الشعراء المُفْلَقين سَلِمَ مِن الغلط
فإما أن يكون لَحِنَ لَحْنًا يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في
تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء مَن تقدم زمانه كالمتنبي ومَن كان قبله كالبحتري
ومَن تقدمه كأبي تمام ومَن سبقه كأبي نُوْاس.
أما العربي القَح فإنه يطلق العبارة بدون كُلفة في اختيار ألفاظها أو ترتيب
وضعها فتقع صحيحة في مبانيها مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يَلْحِن في إعراب
كلمة أو يُزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته ومن ثم كان قَرضُ الشعر
¥