تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنه مما يؤسف له أن تهتم بعض الدول بمثل هذا الأمر، وترصد له الأموال الطائلة، ويغفل بعضنا عنه - لعلمي بوجود بعض الدراسات المحدودة التي لم يتم تفعيل نتائجها - فبلدنا اليوم يتعرض لهجمة شرسة من قِبل جهات مشبوهة، عَبر وسائل الاتصال الحديثة - وخصوصًا الإنترنت - وهذه الهجمة هي محاولة للسيطرة على المنظومات الفكرية، وعلى عقول وقلوب الناس، وإن الهزيمة السياسية والاقتصادية والثقافية - بل والعسكرية - يسبقها عادةً هزيمةٌ فكرية في العقول.

لقد حكى قديمًا "الصلاح الصفدي" أن الخليفة العباسي المأمون لما هادن ملك قبرص، كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان الفلسفية، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك القبرصي خواصَّه من ذوي الرأي، واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه، إلا أن أحد رجاله الحذاق خالفهم جميعًا، وقال: جهزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها، وأوقعت بين علمائها. فتأمل كيف كان أثر ذلك على واقع الخريطة الفكرية في ذلك الزمان!

إن هذه القصة تدل أن الحرب الفكرية قديمة، وليست بالجديدة، وإن إفساد الوطن يبدأ بإفساد الشباب فكريًّا.

قال العلامة ابن خلدون: "إن كتب أولئك المتقدمين - الفلسفة - لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفَّحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم مَن أضله الله من منتحلي العلوم"، وقال: "وهذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها، ويكشف عن المعتقد الحق فيها".

وهذه المخاطر القديمة ليست حكرًا على الماضي البعيد؛ بل هي مخاطر متجددة وحديثة، والدول العظمى تسلك نفس السياسات القديمة، سياسة فرض القوة الناعمة (الفكر والقيم)، ولم تتغير أهمية الفكر وخطورته، فالفكر يبقى هو القوة الحقيقية لأي أمة، واختراقه من الداخل اختراق للأمة والدولة.

يذكر "جوزيف ناي" صاحب كتاب "القوة الناعمة": "إن قوتنا الناعمة قُيض لها أن تساعد على تحويل الكتلة السوفييتية من الداخل".

ويشرح هذا الكلام باستفاضة، فيقول: "برغم أن الاتحاد السوفييتي قد فرض قيودًا ورقابة على الأفلام الغربية، فإن الأفلام التي نفذت عبر مصفاة القيود والرقابة، كانت مع ذلك قادرة على أن تُحدِث آثارًا سياسية مدمرة، وكانت بعض الآثار السياسية مباشرة أحيانًا، ولو غير مقصودة".

ثم يفسر ويعرف "جوزيف ناي" القوة الناعمة: بأنها الجاذبية التي تنشأ عن قيم وأخلاق وثقافة بلد ما. أي بمعنى آخر أن مدى هذه القوة الناعمة (الفكر) تقاس بمدى جاذبيتها، وإمكانية اختراقها للآخر، وتأثيرها في قيمه وثقافته.

ويؤيده السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" بقوله: "تعتمد القيادة الأمريكية على قدرتنا على الإقناع والاجتذاب، إن قوة أمريكا الناعمة؛ أي قوة ثقافتنا وقيمنا وجاذبيتنا، يجب أن تنعكس بوضوح في سياستنا الخارجية ودبلوماسيتنا"، فما بال القارئ إذا اجتمع غزو عسكري معزز بغزو فكري للمنطقة؟!

ويؤكد السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" على أهمية "القوة الناعمة"، فيقول: "لا يمكن تبديد القوة الناعمة، و إلا فقدْ نفقدُ الجيل القادم".

نعم، هذا صحيح، لا يمكن لأي دولة حكيمة وعاقلة أن تبدد وتفرط في جاذبيتها العقدية، وقوتها الفكرية، إلا إذا أرادت أن تفقد جيلها القادم.

وإن حال الواقع - الموصوف بالانفتاح الثقافي غير المحدود - دون قدرة ولاة الأمر - وفقهم الله - على الضبط التام لتلك القنوات والمواقع الآثمة، التي تنشر الإلحاد، وتزين الكفر، وتثير الشبهات العقائدية والسياسية، فحينها لا أقل من وجود القنوات المتخصصة التي تدافع عن العقيدة، وكل ما يدخل ضمنها من سياسي وديني، وتبينها بأسلوب حديث وعصري، وهذا - والله - من أهم الواجبات في هذا العصر على أهل القدرة وصناع القرار، فإنه عصر تلاطمت فيه الفتن، وفُتن الشباب بالشبهات الإلحادية وتبعاتها الدينية والسياسية، وكثرت القنوات المفسدة، ولم يوجد حتى الآن البديل المتخصص القادر بتقنية ومهنية على حماية الهوية الثقافية، ومواكبة روح العصر، وإذا وجد - وهو ممكن - فهل يتفضل أصحاب القرار بتبنِّيه وتفعيله؟

المعركة اليوم هي معركة عقول وأفكار:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير