وقد وقع الحميري ومن كان على شاكلته في هذا المأزق المتضايق، ولم يجد سبيلاً إلى الخروج منه إلا بالتشكيك في ثبوت الإبانة عن أبي الحسن، كما في رسالته الآنف ذكرها ص (25)، مع أن كثيراً من العلماء أثبتوا صحة الإبانة إلى أبي الحسن، وعدوها من مصنفاته، ومن هؤلاء العلماء: ابن عساكر الدمشقي في تبيين كذب المفتري، وهو كتاب ألفه في الانتصار للإمام أبي الحسن الأشعري حيث قال ص (28): «ومن وقف على كتابه المسمى الإبانة عرف موضعه من العلم والديانة». والبيهقي في الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد ص (31) والذهبي في العلو للعلي الغفار (160) وابن فرحون المالكي في الديباج ص (194) وغيرهم كثير.
فلا مجال للتشكيك في نسبة كتاب الإبانة عن أصول الديانة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري؛ إلا عند من له هوى في نفسه وهو يضر نفسه ولا يضر أبا الحسن أو غيره من العلماء شيئاً، ولن يستطيع إخفاء الحق عن كل الناس مهما عمل.
وأما الجواب عن الحديث الذي زعم فيه صاحب الرسالة المذكورة أن فيه تزكية لمذهبي الأشاعرة والماتريدية فمن أوجه كثيرة منها:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فهو من رواية عبد الله بن بشر الخثعمي وهو مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان، وذكر الحافظ في تعجيل المنفعة (1/ 721) الاختلاف في اسمه واسم أبيه وفي نسبه، فقيل: اسمه عبد الله، وعبيد الله، وقيل: عبيد بلا إضافة، وقيل: اسم أبيه: بشير، وقيل: بشر، وقيل في نسبه: الغنوي، وقيل: الخثعمي، والله أعلم.
ولذلك ذكره الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الضعيفة (778)، وقال: ضعيف، ثم ذكر الاختلاف في اسم عبد الله بن بشر وقال: «وجملة القول أن الحديث لم يصح عندي لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغنوي هذا، وهو غير الخثعمي كما مال إليه العسقلاني» والله أعلم.
الوجه الثاني: لو سلمنا بصحة الحديث فلا نسلم باستنباط الحميري منه؛ فإنه لا يدل على ما يريد.
الوجه الثالث: على فرض وجود وجه دلالة فقد يحمل على فتح غير هذا الفتح، وهو الذي يكون في آخر الزمان، والأحاديث المتضافرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحاً غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة حمل المجمل على المبين؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصة وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جنده من خيار الناس كما جاء في السنة.
ولا يعني ذلك تنقص محمد بن مراد العثماني رحمه الله تعالى، أو عدم الاحتفاء بفتحه للقسطنطينية؛ فإن من أعظم مناقب هذا الفاتح المظفر، ومناقب دولته فتح عاصمة البيزنطيين التي امتنعت عن كبار القادة الفاتحين، وذللها الله تعالى لمحمد بن مراد.
الوجه الرابع: أنه لا حجة في هذا الحديث لأهل البدع والضلالات؛ إذ الحكم على عوام المسلمين أنهم يعتقدون في الله تعالى الكمال، ولا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات، وما أحدث فيها أهل البدع من ضلالات، فالواقع أنهم من أهل السنة ولو كان مشايخهم يؤولون الصفات، ويحرفون نصوصها.
ومن هنا يغلط كثير من الناس حين ينسبون عوام المسلمين في البلاد التي مشايخها على ضلال فيما يتعلق بالأسماء والصفات إلى البدعة؛ لأن ذلك المعتقد الخاطئ متعلق بالشيوخ دون العوام.
كما أن عوام المسلمين في البلاد التي مشايخها من أهل السنة والجماعة لا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات ولكنهم يؤمنون إيماناً مجملاً بكمال الرب تبارك وتعالى، وأنه مستحق لكل ما يليق به، بخلاف الشيوخ الضالين، ودعاة البدعة.
وما من شك في أن الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية أكثره من عوام المسلمين، ولربما كان أميره محمد الفاتح كذلك - خاصة وأنه كان حدث السن - وليس لديه تفصيلات فيما يتعلق بالأسماء والصفات، ولم أقف على من نقل عنه كلاماً في ذلك، فحكمه حكم عوام المسلمين الذين يعتقدون صفات الكمال في الله عزَّ وجلَّ.
الوجه الخامس: لو قُدر أن الجيش العثماني كله أشاعرة، وأميره كذلك، وعندهم من تفصيلات هذا المذهب ما يجعلهم مبتدعة مع قيام الحجة عليهم ـ وذلك مستبعد ـ فإن الحديث لا يدل على صحة مذهبهم لما يلي:
أولاً: أن متعلق المدح هو فتح القسطنطينية، وهو عمل طيب، وسعي مشكور، ولا يتعداه إلى غيره.
¥