[خلق الأمانة]
ـ[ابن عبدِ الحميد]ــــــــ[29 - 03 - 09, 04:19 ص]ـ
حين تستقيم الفطرة و تسلم من اتباع الهوى تتمثل في صاحبها بخلق الامانة، و في تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الاحزاب.
قال القرطبي رحمه الله: " و الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال " الفتح القدير 4/ 308 نقلا عنه، و قال في تفسير قوله تعالى: ' (و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون) " و الأمانة و العهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه و دنياه قولا و فعلا، و هذا يعم معاشرة الناس، و المواعيد و غير ذلك، و غاية ذلك حفظه و القيام به " الجامع لأحكام القرآن 12/ 73.
و حين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي اؤتمن أمانته سواء اؤتمن على قنطار أو دينار، لأن الله امر بأداء الأمانات إلى أهلها و نهى عن خيانة الله و رسوله و خيانة الأمانات، و جعل من صفات المفلحين أنهم يرعون عهودهم و أماناتهم و النفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين، و تثق به.
من أغلى ما يرزقه الله العبد و لا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ما جاء في الحديث: " اربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث و حفظ الامانة و حسن الخلق و عفة المطعم " صحيح الجامع.
قال المناوي رحمه الله: " (اربع) من الخصال (إذا كن فيك فلا عليك ما فتاك من الدنيا) اي: لا بأس عليك وقت فوت الدنيا إن حصلت هذه الخصال .. (و حفظ الأمانة) بأن يحفظ جوارحه و ما اؤتمن عليه فإن الكذوب و الخائن لا قدر لهما عند الله .. و أطلق الأمانة لتشيع في جنسها فيراعي أمانة الله في التكاليف و أمانة الخلق في الحفظ و الأداء" فيض القدير 1/ 461.
و الأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات فقد كان كل منهم يقول لقومه: " إني لكم رسول أمين".
و كأن تلك شهادة أعدائهم فيهم، كما جاء في حوار أبي سفيان و هرقل حيث قال هرقل: " سالت ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة و الصدق و العفاف و الوفاء بالعهد و أداء الأمانة، قال: و هذه صفة نبي " البخاري.
و لئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون، و لذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز حيث قال عليه الصلاة و السلام: " و المؤمن من امنه الناس على دمائهم و أموالهم " صحيح سنن الترمذي.
و إذا تمكنت صفة الأمانة من صاحبها تعامل بها مع القريب و البعيد و المسلم و الكافر يقول ابن حجر رحمه الله: " الغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي " الفتح. و كذلك حال المؤمن حتى مع من عرف بالخيانة،و اشتهر بالغدر كما في الحديث: " اد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك " صحيح سنن أبي داوود. و ذلك لأن خطورة السقوط في الخيانة و فساد الفطرة بنقض العهد أشد من مجرد مقابلة الخائن بمثل فعله، و لأن السقوط مرة قد تستمرؤه النفس و تواصل في منحذر الخيانة.
و لا يكفي عديم الأمانة ما يلقاه في الدنيا من مهانة و صغار، و إنما يجدها متمثلة له يوم القيامة عند الصراط لتهوي به من فوق الصراط الى قعر جهنم لقاء ما ضيع منها فيها، كما في الحديث: " و ترسل الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا و شمالا .. " صحيح مسلم.
قال السيوطي رحمه الله في شرحه على مسلم 1/ 266 " قال النووي: "يصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله فتقومان ".
و هنيئا لمن قام بحق الأمانة فجرى على الصراط غير هياب و لا وجل، و الحسرة و الندامة -حيث لا تنفع حسرة و لا ندامة - على من تساهل فخان، و سقط فغدر لشهوة عارضة او لحقد اعمى.
و من الصور العملية للأمانة: ان تنصح من استشارك و ان تصدق من وثق برأيك فقد جاء في الحديث: " المستشار مؤتمن " صحيح الجامع، " .. و من أشار على أخيه بأمر يعلم ان الرشد في غيره فقد خانه " صحيح الجامع، و ماذا يكون قد بقي فيه من الخير من أشار على أخيه بما لا ينفعه بل ربما بما يضره؟
¥