أجاب القائلون بالوجوب عن الحديث بأنه ليس فيه نفي الوجوب، و بأنه سابق علي الأمر به و الإعلام بوجوبه و لا يلزم من زوال العلة سقوط الوجوب تعبداً و لا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة، كالسعي فإنه واجب مع زوال العلة التي شرع لها و هي إغاظة المشركين و كذلك وجوب الرمي مع زوال ما شرع له و هو ظهور الشيطان بذلك المكان (2).
أجاب الجمهور بأنه فرق بين زوال العلة معقولة المعنى كما هي في الأمر بغسل الجمعة، و بين العلة التي مبناها على التعبد و امتثال الأمر كما في السعي و الرمي و نحوهما، فتبقى دلالة الحديث و ظاهر اللفظ دليلاً علي الندب و المشروعية لا الوجوب.
4 - و أما حديث: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع و أنصت غفر له ".
فأجاب القائلون بالوجوب عن الحديث بأن ليس فيه نفي الغسل، و قد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ: " من اغتسل " فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله علي الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء …
الترجيح:
قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن ساق أدلة الفريقين:
و بهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة علي عدم الوجوب، و عدم إمكان الجمع بينها و بين أحاديث الوجوب، لأنه و إن أمكن بالنسبة إلى الأوامر لم يمكن بالنسبة إلى لفظ: " واجب " و " حق " إلا بتعسف لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله، و لا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه، لأن أوضحها دلالة علي ذلك حديث سمرة و هو غير سالم من مقال … و أما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية …. " (1).
و قال الصنعاني في سبل السلام: … فالأحوط للمؤمن أن لا يترك غسل الجمعة … و في الهدي النبوي الأمر بالغسل يوم الجمعة مؤكد جداً و وجوبه أقوى من وجوب الوتر … (2)
وقت الغسل:
اختلف العلماء في وقت الغسل للجمعة و تعلقه بالذهاب إليها علي ثلاثة أقوال:
الأول: اشتراط الاتصال بين الغسل و الرواح. و إليه ذهب مالك و وافقه الأوزاعي و الليث.لحديث: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " و في لفظ مسلم: " إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل ".
الثاني: عدم اشتراط ذلك، و يجزئ من بعد الفجر لكن لا يجزئ فعله بعد صلاة الجمعة، و يستحب تأخيره إلي الذهاب و إلي هذا ذهب الجمهور.
الثالث: أنه لا يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة، فلو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه، و إليه ذهب داود و نصره ابن حزم، و حجتها تعلق الغسل باليوم في الأحاديث لا بالصلاة.
و قد أنكر هذا القول ابن دقيق العيد و قال: يكاد يجزم ببطلانه، و حكى ابن عبد البر الإجماع علي أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة (3).
فائدة:
قال النووي: " قال أصحابنا: و وقت جواز غسل الجمعة من طلوع الفجر إلي أن يدخل في الصلاة … قالوا: و لا يجوز قبل الفجر. و انفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أنه يجوز قبل طلوع الفجر، كغسل العيد علي اصح القولين. و الصواب المشهور أنه لا يجزئ قبل الفجر، و يخالف العيد، فإنه يُصلى في أول النهار، فيبقى أثر الغسل، لأن الحاجة تدعو إلى تقديم غسل العيد، لكون صلاته أول النهار، فلو لم يجز قبل الفجر ضاق الوقت و تأخر التبكير إلى الصلاة " (1).
قال الشوكاني: و الظاهر ما ذهب إليه مالك. لأن مجمل الأحاديث التي أطلق فيها: اليوم علي حديث الباب (1) المقيد بساعة من ساعاته واجب، و المراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع و هو الصلاة لا اسم اليوم (2).
قال الحافظ: و مقتضى النظر أن يقال: إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة و التنظف رعاية الحاضرين من التأذى بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبن في أثناء النهار ما يزيل تنظفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، و لعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظف و الله أعلم (3).
مسألة هل يشرع الغسل لمن لم يحضر الجمعة:
قال الحافظ: و استدل من مفهوم الحديث (4) على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة، و قد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع. و هذا هو الأصح عند الشافعية، و به قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفية (5).
¥