تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذه النقطة هي أعظم دليل عند من يرى المنع، بل هو مرتكز مذهبهم كله، ومفاده أن النظم العصرية والتطور المدني صار يلزم منه إعادةُ تنظيمٍ لمصالح الناس بحَسَب ما استُحدِث، ومن بين ما تُجُدِّد مسألة الانتقال من بلاد إلى أخرى والاستيطان بها، فظهرت رُخَص السفر وحًدِّدت مواعيده ونُظِّمت طُرُقه، وأمست الإقامة ببلادٍ غير بلدك رهينة التصاريح والإثباتات، وهذا من حيث العموم لا يخالف أي مصلحة شرعية، بل هو عين المصالح، كما هو الحال بالنسبة لنظم المرور من إشارات وعلامات وغير ذلك، فهي تنظيمٌ مصلحيٌ يعين المنقاد له على تفادي الضرر، فتنظيم ولي الأمر أو من أنابه الولي في ترتيب شؤون المسلمين داخلٌ ضمن المصالح المرسلة التي تدخل تحت عموم أدلة طاعة ولاة الأمور كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء:59) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ." (39) ولا شك أن الطاعة مقيدة بطاعة الله تعالى فإن المخلوق لا يطاع في معصية الله أبدا، كما قال عليه الصلاة والسلام:" لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف." (40) فبهذه النظرية الشرعية قالوا إنَّ من يجاور من غير رخصة له بالمجاورة فهو مخالف في لسان الشرع والعرف، لأنه بمجرد دخوله تلك البلاد المسلمة وجب عليه الانقياد لنُظُمِها وتعاليمها، خاصة وأن هذه النظم والتعاليم تدعو إلى ترتيب مصالح الناس لتسهيل شؤون حياتهم، وإلا صارت الأمور من غير زمام، فتتعطل حينئذ مصالح الناس وتظهر الفوضوية في أوساطهم، فيختل الأمن وتفسد الأرض وينعدم النظام.

مناقشة القول:

لا شك أن هذا القول له من الوجاهة والقوة ما لا بد لنا معه من وقفة علمية، إذ المصلحة في طاعة ولاة الأمور معروفة كما هو منهج أهل السنة، خلافا للخوارج ومن سار على نهجهم من الحزبية أهل الفتن والتفرق، وواجب كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطيع من ولاه الله تعالى عليه في غير معصية الله تعالى، وبهذا المنهج الرشيد تستقيم مصالح الناس، ويستتب الأمن في أرجاء أي معمورة، فتتماشى المصلحتين الدينية والدنيوية من غير خلل ولا عطل، ولهذا كانت طاعة الولاة من الأسس المحكمة في الشريعة الإسلامية، ينظر فيها كل من الراعي والرعية إلى ما للطرف الآخر من حق وما عليه من واجبات.

ولكن كما ذكرنا أن القواعد الكبرى التي أحكمت أصولها، يمكن أن يخرج منها ما يستثنى من الأصل، بحيث لا يقدح في شموليته، ولا يخرم بتخريج بعض الجزئيات منه، فكون الأصل يستثنى منه لا يجعل الأصل مخروما أبدا، بل الاستثناء دليل على تماشي القاعدة مع روح الشريعة، فإن تغير الزمان والمكان ووقوع النوازل وظهور الحوادث وما يعرض لأمة الإسلام من مستجدات، لا يعارض مرونة القواعد وإمكانية إلحاق هذه الأشياء بها، ولهذا لا ينافي عدم وجود الأدلة الجزئية لبعض المسائل في شريعة الإسلام وجودُ ما تُردُّ إليه من القواعد الكبرى في الأصلين السلفيين (الكتاب والسنة) لأن بعض المتعنتين يطلب الدليل في كل مسألة، وكأن القرآن أو السنة صارا موسوعة أو ما أشبه ذلك، ولو كان كما تُصور لذهب جمال معاني القرآن الكريم ورونق السنة النبوية، ولصار الاستنباط والبحث عن الكنوز العلمية والقواعد والفوائد أمرا لا طائل من ورائه، ومثال ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ؟ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ، فَقَالَ عَبْد اللهِ: وَمَالِيَ لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير