تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذا تعطيل مصالح الناس بأمر يمكن فعله من غير جر مفسدة كما هو في المسألة، ولا بد من التنبيه على أمر مهم يمنع المسألة من التوسع والاعتراض عليها، وهي أن الأصل في العقود الإلزام والحتْم، فلا يجوز للمشترطين المتراضيين أن يغدر أحدهما بالآخر، وإلا لسوَّغَ كل طرف فعلَه بأنه غير راض في حقيقة عقده، وهذا مردود من كل الوجوه، وإنما الاستثناء في مسألتنا نظرا للأدلة، فيحصر الحديث فيها ولا يقاس أبدا على فرع مُستثنًا من أصل في أصول الشريعة، ولهذا على سبيل المثال كانت الفتوى تخص المستفتي على وفق حاله وما جاء في سؤاله، وليس كل من وافقت مسألته في ظاهرها سؤالَ هذا المستفتي يعمِّمُ الحكم بجامع الشَّبَه، فرُبَّ أجوبةٍ اختلفت والسؤال واحدة، وهذا راجع إلى باب النظر والاجتهاد.

ثالثا: إن قلنا بالغدر فهذا معناه فساد العقد، وليس هذا مناسبا في مسألتنا، ففساد شرط من شروط العقد لا يعني فساد العقد بالكلية، والإخلال بشرط من شروط العقد لا يعني ذهاب ماهية العقد من حيث كونه بُني على اشتراطٍ، وإنما إن أمكن تصحيحه صُحِّح، وإلا لصارت عقود الناس بمجرد فساد شرط من شروطها تذهب فتضيع عليهم عقودهم، وأما كون صُوَر الغدر واقعة بمخالفة الزَّمن المحدَّد لا يفيد فساد العقد أبدا إذ الزَّمن من شروط العقد وليس هو العقد كلُّه، ولهذا كان حديث الغدر عند طائفة من العلماء ضربا لمثالِ عدم الوفاء في الحروب ولو أنَّ بعضهم جعله في الإمامة العامَّة إلا أن الحكم يعُمُّ كل صُوَرِ الغدر ولو كان النص ظاهره الخصوص، فالغدر المطلق هنا هو ما جر إلى فساد العقد بالكلية بفساد ماهيته، ولربَّما يعيب بعض القارئين هذا الكلام ويجعلُه سفسطة وتكلُّفا، ولكن المراد بيانُ عدم إسقاط الحكم مجرَّدًا عن شروطه وموانعه، فتأصيل مسألةٍ شيءٌ والحكم على مفرداتها شيءٌ آخر، إذ البَحثُ راجعٌ إلى جمع معطياته والنظر في موانعه وشروطه، وهذا لا يتوافق أبدا في مسألة المجاورة، ولا يتوافق في تنزيل الغدر بمصطلحه الشرعي على المجاورين في الحرمين والله تعالى أعلى وأعلم.

4 - بعض الآثار التي تشير إلى الرجوع فور أداء النسك إلى البلد:

لقد استدل المانعون ببعض الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في إلزام المسلمين الرجوع إلى البلاد فور أداء نسك أو قضاء الحاجة المرجوة من السفر، ويظهر في حقيقة الأمر أن الأدلة في جانب المجيزين لا المانعين، ودلالتها تكون على النحو التالي:

- فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضرب الحجاج إذا حجوا ويقول: يا أهل اليمن يمنَكم ويا أهل الشام شامَكم ويا أهل العراق عراقَكم" وهذا الأثر لم أقف له على سندٍ -حسب بحثي القاصر- وقد ذكر بعض الأفاضل أن (هذا الأثر ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (44) و ذكره الغزالي في الإحياء (1/ 243) -دار المعرفة- بدون إسناد) ولم يُشِر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء إليه، وكذلك ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ذكر أقوال من كره المجاورة بمكة من غير أن يبين مصدره ولا درجته كما في جامع المسائل (5/ 341) وكذلك ذكره ابن الحاج في المدخل (2/ 203) – دار الفكر- وهذا مما لا يحتج به إذ الظاهر أنه لا أصل له حتى يتبين عكس ذلك والله أعلم.

- وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدُكم حَجَّه فليعجل الرجوعَ إلى أهلِهِ فإنَّه أعظمُ لأجرِهِ."

السنن الكبرى (10143) الحاكم في المستدرك (1753) سنن الدارقطني (289) وانظر صحيح الجامع (732).

وليس في الحديث هذا ما يدل على مقال المعارضين، وإنما فيه الترغيب بالمسارعة إلى الرجوع حال إتمام النسك، حيث يستأنس الرجل بأهله بعد الفرقة، ويتفرغ لعبادة ربه على وجه التمام إذ الحج والسفر مظنة المشقة والوحشة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 623):" وَفِي الحَدِيثِ كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الأَهْلِ لِغِيرِ حَاجَةٍ وَاسْتِحْبَاب اِسْتِعْجَال الرُّجُوع وَلَا سِيَّمَا مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الضَّيْعَة بِالْغَيْبَةِ، وَلِمَا فِي الْإِقَامَة فِي الْأَهْل مِنْ الرَّاحَة الْمُعِينَة عَلَى صَلَاح الدِّين وَالدُّنْيَا، وَلِمَا فِي الْإِقَامَة مِنْ تَحْصِيل الْجَمَاعَات وَالْقُوَّة عَلَى الْعِبَادَة." انتهى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير