وأشار ابن الجوزي إلى ذلك التلازُم في إحدى خَواطِره، فقال: "وربما رأى العاصي سلامةَ بدنِه وماله، فظنَّ أنْ لا عقوبة، وغفلته عَمَّا عُوقِب به عقوبةٌ، وربما كان العِقاب العاجل معنويًّا، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: "يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني! فقيل له: كم أعاقبك ولا تدري؛ أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟! ".
فمَن تأمَّل هذا الجنس من المعاقبة وَجَدَه بالمرصاد، فرُبَّ شخصٍ أطلق بصره فحُرِم اعتبارَ بصيرته أو لسانه، فحرم صفاء قلبه، أو آثَر شبهةً في مطعمه، فأظلم سِرُّه، وحُرِم قيامَ الليل وحلاوة المناجاة ... إلى غير ذلك، وهذا أمرٌ يعرفه أهلُ محاسبة النفوس.
ولقد رأينا مَنْ سامَح نفسَه بما يمنع منه الشرع، طلبًا للراحة العاجلة، فانقلبت أحواله إلى التنغُّص العاجل، وعكست عليه المقاصد" [16] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn16#_ftn16).
وقد كابَد ابن الجوزي شيئًا من عَوارِض حَلاوة المناجاة ومُكدِّراتها، ثم إنَّ الله تَدارَكَه برحمته ولطفه، ولقد حكى هذه المعاناة بأسلوبٍ بديع، فقال: "كنت في بداية الصبوة قد أُلهِمت سلوك طريق الزهَّاد؛ بإدامة الصوم والصلاة، وحُببت إِلَيَّ الخلوة، فكنتُ أجد قلبًا طيبًا، وكانت عين بصيرتي قويَّة الحِدَّة تتأسَّف على لحظةٍ تمضي في غير طاعة، وتُبادِر الوقتَ في اغتِنام الطاعات، ولي نوعُ أُنْسٍ وحلاوة مناجاة، فانتهى الأمر إلى أنْ صار بعض وُلاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه فمال الطبع؛ ففقَدتُ تلك الحلاوة، ثم استَمالني آخَر، فكنت أتَّقِي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة، ثم جاء التأويل فانبسطتُ، فقدم ما كنت أجد [17] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn17#_ftn17)، وصارت المخالطة تُوجِب ظُلمَةَ القلب إلى أنْ عُدِم النور كله، فكان حنيني إلى ما ضاع منِّي يُوجِب انزعاج أهل المجلس [18] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn18#_ftn18)، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي [19] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn19#_ftn19)، وكَثُر ضَجِيجي من مرضي، وعجزتُ عن طبِّ نفسي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهةٍ مِنِّي، ورَدَّ قلبي عليَّ بعد نفوره مِنِّي، فأفقت من مرض غفلَتِي، وقُلت في مناجاة خلوتي: سيِّدي، كيف أقدر على شكرك؟ وبأيِّ لسان أَنطِق بمدحك؛ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبَّهتَنِي من رقدتي، وأصلَحتَ حالي على كرهٍ من طبعي؟! فما أربحني فيما سُلِب مِنِّي؛ إذ كانت ثمرته اللجأ إليك، وما أوفر جمعي؛ إذ ثمرته إقبالي على الخلوة! وما أغناني؛ إذ أفقرتَنِي إليك! وما آنَسَنِي؛ إذ أوحشتني من خلقك! آهٍ على زمانٍ ضاعَ في غير خدمتك! أسفًا لوقتٍ مضي في غير طاعتك! " [20] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn20#_ftn20).
وأختم هذه السطور بطرفٍ من مناجاة أبي الحسن الكانشي (ت 347هـ)، الذي عُرِف بالعلم والوَرَع، ورقَّة القلب ومجانبة أهل الأهواء؛ فقد حُكِي عنه أنه قام ليلة فقرأ سورة الإسراء حتى ختم المصحف، ثم أخَذ في البكاء وقال:
أتراك بعد الدرس للقرآن تحرقني؟
يا ليتني أُدرِجتُ قبل الذنب في الكفنِ
ثم عاد إلى البكاء حتى طلَع الفجر، ثم أقبل يقول: "وعزتك وجلالك ما عصيتك استِخفافًا بحقِّك، ولا جحودًا لربوبيَّتك، لكنِّي حضرني جهلي، وغاب عنِّي علمي، واستفزَّني عدوِّي، وإنِّي عليها - يا إلهي - لنادم" [21] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn21#_ftn21).
ومن مناجاته: "أَرِنِي مَن أطاعَه فأضاعَه، أرِنِي مَن قصَدَه فخيَّبه، أرِنِي مَن توكَّل عليه فأضاعَه، إذًا لا تراه أبدًا" [22] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftn22#_ftn22).
[1] (http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftnref1#_ftnref1) انظر: "المدخل"؛ لابن الحاج: 2/ 355.
[2] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftnref2#_ftnref2) " المدخل": 2/ 355.
[3] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftnref3#_ftnref3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": 8/ 104.
[4] ( http://www.alukah.net/Sharia/0/24785/#_ftnref4#_ftnref4) " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة": ص 2.
¥