وأما خطاب الناس بكلام لا سبيل لأحد إلى معرفة معناه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء ألبتة، بل هو مثل / مستقبح باتفاق العقلاء، والله تعالى وراء تنزيهه عن مثل ذلك، ولكن هذا الوجه والذي قبله لا يصح من مثل هذا الرازي الاحتجاج بمثلها فإنه وأصحابه ينصرون قول الجهمية المجبرة الذين ينزهون الرب عن فعل ممكن، بل يجوزون عليه فعل كل مقدور، ومن المقدور أن يخلق أصواتا مؤلفة من جنس الكلام، ولا يكون لها معنى، أو يكون لها معنى لا يعلمه غيره.
245
وهو يجوّز أن يخلق كل شيء لا لحكمة وإن كان هذا مما يعده العقلاء عبثا فعنده لا ينزه [عن] مثل ذلك
246
هؤلاء النفاة يقولون: إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن ولم يدل عليه القرآن
247
وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر وغيرهم يقول: بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول
249
وهؤلاء لا يقصدون بتأويل كلام المتكلم معرفة مراده، بل يقصدون بيان ما يحمله اللفظ كيف أمكن ليحمل عليه، وإن / لم يعلم ولا يظن أنه أراده بل قد يعلم قطعا أنه لم يرده
250
ولهذا قالوا: إذا اختلف الصحابة على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث بخلاف الأحكام، فإنهم لا يجوزون إذا اختلفوا على قولين إحداث ثالث، لأن اتفاق الأمة على قولين إجماع على فساد ما عداهما، وهذا بعينه وارد في التأويل، فإنه إذا قالت طائفة معنى الآية المراد كذا وقالت طائفة: معناها كذا فمن قال معناها ليس واحدا منهما بل أمر ثالث فقد خالف إجماعهم وقال إن الطائفتين مخطئون.
فإن قيل هؤلاء لا يقولون أريد بل يقولون يجوز أن يكون المراد، قيل كلام الصحابة لم يكن بالاحتمال والتجويز، وبتقدير أن يكون كذلك فالاحتمالات [كذا والصواب فالاحتمالان] إن كان أحدهما مرادا فلم يجمع على ضلال وإن كان المراد هو الاحتمال الثالث المحدث بعدهم فلم يكن فيهما من عرف مراد الله تعالى بل الطائفتان جوزت أن تريد غير ما أراد الله تعالى وما أراده لم يجوزه، وهذا من أعظم الضلال
251
وزعموا أن الرسول لم يكن يعرف ما يقرؤه ويبلغه وعلى قولهم فأحاديث الصفات التي قالها كان يقولها ولا يدري / معنى ما يقول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
252
لا سيما ولم ينقل أحد عنه أنه نهى الناس عن اعتقاد ظاهره وما دل عليه ولا نبههم على دليل عقلي يعرفون به الحق، فعلى زعمهم لم يبين الحق لا بدليل سمعي ولا بدليل عقلي.
........
وهم أنفسهم معترفون في غير موضع بفساد أقوالهم النافية وتناقضها.
وقد ذكرنا من أقوال الرازي وغيره من ذلك ما تبين به ذلك فهم يشهدون أن عقلياتهم التي عارضوا بها الرسول باطلة
259
ذكر [الرازي] القولين ولم يرجح أحدهما، ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك ...
وقد ذكر حجة كل قوم، ولم يذكر لهم جوابا عن حجة الآخرين، فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة عنده، وأما في تفسيره فرجح المنع في التأويل، كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه، وكما رجحه أبو حامد في آخر أقواله.
260
[الرازي] والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلالة العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل قال فهذا منتهى ما جعلنا في هذا الباب
262
ولفظ التأويل له في القرآن معنى وفي عرف كثير من السلف وأهل / التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الاصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره، وهذه المعاني الثلاثة موجودة في كلام الناس، وقد يذكر بعضهم فيها معنيين ومنهم من يذكر الثلاثة مفرقة، بل كثير من أهل التفسير يذكرون في أول تفسيرهم المعنيين، ثم يذكرون المعنى الثالث في موضع آخر، كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره
269
ولم يذكر أبو الفرج في الآية القول الذي ذكره في أول كتابه وهو (أن التأويل نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ)
¥