فرق بين رجحان الاعتقاد واعتقاد الرجحان، وأنت قد ذكرت هذا الفرق كما ذكره أبو الحسين البصري وغيره.
واعتقاد الرجحان قد يكون علما، فإذا اعتقد أن هذا الظاهر أرجح من هذا الظاهر فهذا يكون معلوما مستيقنا، وكذلك يجب العمل بهذا الراجح ويكون العامل عاملا بعلم لا بظن وحينئذ فإذا تعارض ظاهران وقد علم رجحان أحدهما جزمنا بأن إرادة الله لذلك الشيء أرجح، وكان هذا الجزم علما فلم لا يجوز ذلك؟ وإن لم يجزم بوجود المراد= وهذا الجزم ينتفع به نفعا عظيما.
[أشار لنحو ذلك في الفتاوى 13/ 110]
454
هب أنا لا نجزم بشيء، بل نرجح إرادة أحدهما على الآخر، فإذا قلنا: إرادة هذا أرجح وغلب على الظن أن هذا هو المراد كما في كثير من الآيات والأحاديث التي تنازع الناس في تفسيرها، فغلب على الظن رجحان أحد الأقوال، فلم لا يجوز هذا وما المانع منه؟ وليس هذا تعويلا على الظن في مسألة عقلية قطعية، بل في مسألة سمعية غير قطعية، فإن التقدير أن هذا لم يخالف دليلا قطعيا، بل العقل يجوز إرادة هذا وإرادة هذا، والسمع قد رجح أحدهما ترجيحا ظنيا، فلم لا يجوز مثل هذا الترجيح؟ وهذا هو الظاهر الذي هو أحد مسمى المحكم عندك.
454
من الناس من يقول: مسائل الأصول لا يجوز التمسك فيها إلا بأدلة يقينية لا ظنية، هذا على وجهين فإن كان مما أمرنا فيها باليقين كاليقين بالوحدانية والإيمان بالرسول، والإيمان باليوم الآخر، مما أمرنا فيه باليقين لم يمكن إثباتها إلا بأدلة يقينية وأما ما لا يجب علينا فيه / اليقين كتفاصيل الثواب والعقاب ومعاني بعض الأسماء والصفات، فهذه إذا لم يكن فيها دليل قطعي يدل على أحد الطرفين كان القول مما يترجح من الأدلة أن هذا هو الظاهر الراجح قولا عدلا مستقيما، بل كان خيرا من الجهل المحض وأيضا فمن الناس من لا يقدر على العلم في جميع ما يتنازع فيه الناس وفي دقيق المسائل، فإذا تكلم بحسب طاقته واجتهاده فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
456
فما كان ظاهرا غير مراد بينه بآية أخرى، كما في الخاص والعام، فأما أن يكون دالا على غير الحق، وهو لم يبين الحق الذي أراده فهذا غير واقع بل غير الله إذا تكلم بكلام ولم يبين مراده بكلامه كان معيبا مذموما.
457
ولكن من الناس من لم يعرف مرادهم بلفظ النسخ وعادتهم واصطلاحهم فيه فيظن أنهم أرادوا به معنى الخاص فيكون قد أمروا بما لا يستطيعه العباد، وهذا لم يقع في الشريعة قط
458
قوله: إن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية قد أبطلناه في مواضع [الفتاوى 4/ 104، 6/ 514] ونحن ننبه هنا على بطلانه، فنقول: هذا القول من أعظم السفسطة وهو من أعظم أنواع السفسطة التي في الوجود، ولهذا لم يعرف هذا القول عن طائفة معروفة من طوائف بني آدم لا من المسلمين ولا غيرهم، لظهور فساده، فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق وأن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضا ويفهم بعضهم مراد بعض علما ضروريا أعظم من علمهم بالعلوم النظرية.
462
ولكن المقصود هنا أن دلالة الأدلة القطعية القولية على مراد المتكلم ومعرفة المستمع بمراده وفهمه لكلامه هو ما يعرفه جميع بني آدم علما ضروريا قبل علمهم بالأدلة العقلية المجردة. فالطفل إذا صار فيه تمييز / علم مراد أبيه وأمه بما يخاطبانه به، وفهمه لمراد الأم أسبق إليه من العلم بالأدلة العقلية النظرية، فإن هذا مما يعلم به مراد المتكلم اضطرارا، ولا يتوقف فهم الصغير لكلام مربيه أبيه وأمه وغيرهما لا على نقل اللغة والنحو والتصريف ولا على نفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي والسمعي، بل يعلم مرادهم بكلامهم اضطرارا لا يشك فيه.
....
وإن كان بعض ذلك قد يظن أو لا يفهم، لكن الأغلب أنهم يعلمون مراده اضطرارا وهذا موجود / في مكاتبة العامة والخاصة ومن يخاطبهم، فإذا كان الخط الدال على اللفظ يعلم به المراد اضطرارا في أكثر ما يكتب، فاللفظ الذي هو أقرب إلى المعنى المراد أولى أن يعلم به المراد اضطرارا.
464
¥