وهذا [الرازي] يقول إن شيئا من الأدلة / اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيا، مع أن هذا القول كما تقدم لا يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا من المسلمين ولا من غيرهم، ولا عن عالم معروف إذ كان هذا القول في غاية السفسطة وجحد الحقائق، وإنما الذي يقوله بعض الناس هو القدح في بعض الأدلة اللفظية والسمعية كما قد يقدحون في بعض الأدلة العقلية.
أما القدح في الجنس فهذا لا يعرف في جنس المتكلمين عن طائفة من الآدميين.
ولكن هذا الرجل كثير السفسطة والتشكيك فهو من أعظم المتكلمين سفسطة وتشكيكا، وهذا من جملة سفسطته، لا يعرف في جنس المتكلمين من هو أعظم تقريرا للشكوك والشبهات الباطلة وأضعف جوابا عنها منه.
466
ولهذا تجد كل أمة يرجعون إلى قول قائل مقبول القول عندهم، هم أقل اختلاافا في معرفة مراده من الذين يرجعون إلى مجرد الأدلة العقلية المجردة، ولهذا كان غير أهل الكتاب من أصناف المشركين من فلاسفة الهند واليونان والعرب وغيرهم أعظم اختلافا فيما يدعونه من الأدلة العقلية من اختلاف أهل الكتاب في مراد الأنبياء.
ثم أهل الحديث والسنة الذين يرجعون إلى حديث الرسول ? مع رجوعهم إلى القرآن أقل اختلافا من (غير أهل) العلم بذلك، ومن يرد أخبارا صحيحة لزعمه أنها أخبار آحاد لا تفيد العلم أو يقبل أخبارا ضعيفة أو موضوعة يظنها صحيحة.
فهؤلاء أكثر اختلافا من أهل المعرفة بالحديث، لأنهم إذا كانوا أعرف بالحديث فالحديث يدلهم على مراد الرسول، فيكون الاختلاف بينهم أقل من أولئك وأمة محمد وإن / كانوا قد اختلفوا في أشياء فهذا من لوازم النشأة الإنسانية فالشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني ... لكن من كان أفضل وأكمل كانت معرفته الحق أكمل، وعمله به أكمل. وأمة محمد أكمل في معرفته والعمل به، فهم أفضل الأمم.
ثم أهل السنة وأهل المعرفة بحديث رسول الله ? وبمعانيه المتبعون لذلك هم أكمل علما وعملا من غيرهم، فهم أعلم الناس يقينا ومعرفة لاتباعهم الرسول ومعرفتهم بكلامه، وعلمهم بذلك ونطقهم به بخلاف ما زعمه هؤلاء من أن الأدلة النطقية لا يمكن أن يقطع فيها بمراد المتكلم.
472
علم المخاطبين بالمعنى الذي أراده المتكلم أهم عندهم من العلم بلفظه .... وكذلك الناس ينقلون مذاهب العلماء وأقوالهم بغير ألفاظهم وهم متفقون على هذا.
475
فعامة الأمة يعلمون معاني القرآن الظاهرة المنقولة بالتواتر من غير حاجة إلى شيء من تلك المقدمات، وهم يسألون عن معاني القرآن والحديث ليفهموها ويعرفوها وإن كانوا لا يحفظون لفظ الحديث ولكن قد عرفوا معناه فيفتون به ولهذا قال أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلينا من حفظه، فاهتمامهم بفهم المعنى أعظم من اهتمامهم باللفظ، وإذا كان كذلك كانت معرفة ونقله أبلغ من معرفة اللفظ وإذا كان لفظ / القرآن وكثير من الحديث منقولا بالتواتر، فنقل المعنى أولى
476
أهل العلم بالكتاب والحديث قد نقلوا لغة الرسول ? التي خاطبنا بها، ولم يحتج مع ذلك إلى نقل لغة أحد غير الرسول ? ولهذا لا يحتاج علماء الدين إلى أهل اللغة في فهم القرآن والحديث إلا في مواضع يسيرة يحتاج بعضهم إليها كألفاظ غريب القرآن والحديث والفقه ومعانيها فلا يحتاجون في ذلك إلى نقل أهل اللغة، وإن احتاج إلى ذلك بعضهم أو ذكر ذلك على سبيل الاستشهاد والاعتبار كما يقوى الدليل بالدليل، فكل ما احتاج المسلمون إلى نقله من لغة القرآن فهم يتبعون عندهم نقلا معلوما مقطوعا به إلا مواضع قليلة خفيت على بعضهم فصارت عنده / مظنونة أو مجهولة.
478
قيل: إن يعن التجريد والإطلاق من كل وجه فما في ألفاظ الكلام ما هو كذلك، بل كلها مقترنة بغيرها، فإن الكلام إما جملة اسمية وإما جملة فعلية، وكل منهما أقل ما يأتلف من لفظين مفردين، وكل منهما مقترن بالآخر، ليس واحد منهما مجردا مطلقا من جميع القرائن، وإن عني بالتجريد والإطلاق أن يكون مجردا عن بعض القرائن فهذا حق وجميع الكلام يدل مع قرينة على معنى ومع عدمها وقرينة أخرى على معنى آخر، حتى لفظ الإنسان فإنه يقال: إنسان العين والألفاظ التي هي صريحة في الأحكام مثل لفظ الطلاق والنكاح وغيرهما قد يقترن بها ألفاظ تزيل دلالتها باتفاق المسلمين كما إذا قيل: أنت طالق من وثاق، فهذا لا يقع به الطلاق بالاتفاق، أو قال: يا دنيا غري غري
¥