فأقول: من هنا ضل القوم وأضلوا غيرهم. فهذه الوسائل التي استخدموها، لا تستقل بتحصيل المطلوب، وقد جاءت ثمار بحثهم وتنقيبهم مهازل، أنبأت عن عظيم ضلالهم، مع مسخ عقولهم، حيث زعموا أن أصل الإنسان من القرود، وإنما وصلوا إلى هذه النتيجة بواسطة الحفريات والتنقيب، وهي طريقة لا يسلكها إلا ضال، ولا يزداد بها إلا ضلالا.
ولما كان الزنداني ممن غرتهم علوم الملاحدة، وأرادوا أن يفقوا بينها وبين علوم الشريعة المطهرة، ولم يفقوا، فقد قال في بعض كتبه تحت عنوان: السير في الأرض لمعرفة كيفية بدء الخلق.
قال: إن تحديد المنهج العلمي للبحث أمر في غاية الأهمية، وهذه الآية القرآنية ((قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)) تحدد لنا منهجا علميا لمعرفة كيفية بدأ الخلق، وتبين أنه لا بد لنا من أن نسير في الأرض باحثين ومنقبين، وأن معرفة تلك الكيفية التي بدأ بها الخلق تتوقف على سيرنا في الأرض، وهذا ما وجده الباحثون في هذا الزمان، من أنه لا بد من دراسة عينات الصخور، والمقارنة بين تركيبات الأرض المختلفة، إذا أردنا أن نعرف بدء الخلق على الأرض، فمن أخبر محمدا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بكل هذا. انتهى.
وهكذا تأول الزنداني وغيره من المتأخرين آيات القرآن، لتشهد لهذه العلوم المضلة أنها صحيحة ونافعة، وإلا فمعنى الآية ليس كما قال، لا تدل عليه ولا تشير إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار، أو كان اللفظ يعمهما وهو الصواب، فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك، ولهذا أمر الله أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين.
ذكر رحمه الله هذا الكلام في " أعلام الموقعين " بعد قوله تعالى: ((أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها)) ثم قال رحمه الله: فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله، ثم ذكر الكلام المتقدم، فقال: وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير. إلى أن قال: فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك.
أين هذا من تأويل الزنداني من أن الآية المذكورة تبين أنه لا بد لنا من أن نسير في الأرض باحثين ومنقبين إلى آخر ما قال؟
فالمنهج العلمي للبحث كما سماه الزنداني شيء، ومعنى هذه الآية شيء آخر. ولقد جعل آيات من القرآن غير هذه معطلة عن معرفة معناها، أو مئولة بغير تأويلها إلى أن ظهر هذا العلم المردي المهلك، فصار معنى هذه الآية وأمثالها البحث والتنقيب، ودراسة عينات الصخور، والمقارنة بين تركيبات الأرض المختلفة.
وإن من عظيم ما أصيب به الإسلام اليوم ثمار هذا البحث ونتائجه، وهو القول بدوران الأرض، والضلال في بداية نشأة الكائنات الحية، وغير ذلك من الباطل الذي ضل به الدهرية، وأضلوا به من قلدهم.
أما طريقة القرآن فشيء آخر لا يقارب هذا ولا يدانيه، بل يفضحه ويبين بطلانه، ولم يرد الله منا أن نبحث وننقب، فقد أراحنا وله الحمد من هذا العناء المفضي إلى الضلال، ولم يكل معرفة بداية المخلوقات ولا نهايتها لبحثنا وتنقيبنا، فقد أخبرنا بما كان وما سيكون مما ننتفع بمعرفته، ولقد حسدنا هؤلاء الملاحدة، الذين يكدحون طوال أعمارهم في البحث والتنقيب، ثم في النهاية يأتون بنتائج ضالة مضلة لا يقبلها إلا عقل زائغ مفتون، مثل: تسلسل الإنسان من القرود، ودوران الأرض. فالقرآن فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وفيه هداية الخلق لما خلقوا له، حاشا أن يكن فيه الأمر بهذا الباطل والضلال.
وليست هذه من طرق السلف في علومهم ومعارفهم، وقد أنكروا على المتكلمين، وذموهم وضللوهم بانتحالهم طريقا لم يكن عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولقد كانت نهاية المتكلمين الحيرة والضلال كما هو معروف مع أنهم لم ينكروا وجود الخالق، ولكن أرادوا أن يستدلوا عليه، ويعرفوه بغير طريق الدين، الذي كان عليه نبيهم وسلفهم الصالحون، فضلوا وأضلوا غيرهم فكيف بهؤلاء الذين يصرحون أنهم من أول خطوة يخطونها في طريق بحثهم وتنقيبهم منكرون لوجود الخالق سبحانه، فأي خير يرجى من هؤلاء؟!
¥