أما "الرد على المبتدعة المنحرفين عن مذاهب السلف وأهل السنة" فهو تعريف ينطبق على علم الكلام الأشعريّ، ويكشف عن قصور وتعصب واضح ضد المعتزلة، فالادعاء بأن علم الكلام سني صرف، نشأ بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) للرد على المعتزلة الذين يسميمهم ابن خلدون والغزالي بالمبتدعة المنحرفين في الاعتقادات، فإنه قول لا تسانده الأدلة التاريخية، وإن كانت المحنة شكلت منعطفًا أدى إلى استهجان اعتقادات المعتزلة وتسخيفها والحط منها، ورفض تراثها الكلاميّ باعتبارها شبهًا لا تنطوي على دليل صحيح.
يبدو أن ابن خلدون كان أسيرًا للرؤية الأشعريّة التي تبلورت على يدي الباقلاني، والجويني، والغزالي، والرازي، التي انطبعت في سياق الصراع والتنافس مع المعتزلة ولم يلتفت إلى التطور الذي لحق بالمذهب بعد أن خف الجدال مع المعتزلة، حيث نلحظ تعريفًا أكثر موضوعية يصبح فيه هذا العلم شاملًا لأهل السنة وخصومهم من المخالفين، كما يظهر ذلك جليًا مع عضد الدين الإيجي (ت 756هـ) الذي يعرف علم الكلام بقوله: «الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد فيه نفس الاعتقاد دون العمل، والدينية المنسوبة إلى دين محمد عليه السلام؛ فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علم الكلام» ([23]).
وفي سياق الصراع المعتزلي الأشعريّ يعمد ابن خلدون إلى ربط هذا العلم بمؤسس المذهب أبي الحسن الأشعريّ؛ فيقول: «ولما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدريس والبحث في سائر الأنحاء وألف المتكلمون في التنزيه، ُحدثت بدعة المعتزلة، وقضوا بنفي الصفات، وكان ذلك سببًا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقليّة على هذه العقائد، دفاعًا عن صدور هذه البدع، وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعريّ إمام المتكلمين) ([24]).
([11]) الفقه هو معرفة النفس ما لها وما عليها، وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر. «شرح المقاصد في علم الكلام» للتفتازاني، الطبعة الأولى، 1981م، باكستان، دار المعارف النعمانية، (1/ 6).
([12]) في نسبة هذا الكتاب للإمام أبي حنيفة – رحمه الله – نظرٌ؛ فقد نسب الكتاب الإمام الذهبي في «العلو» (ص 101) إلى أبي مطيع، الحكم بن عبد الله البلخي، وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة.
وكذلك: «تاريخ الإسلام»، للذهبي (وفيات 191 - 200، ص 158)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: (5/ 46)، وما بعدها.
([13]) الأرجح أن ظهور هذا الاسم كان في عصر المأمون. «ضحى الإسلام» لأحمد أمين، الطبعة العاشرة، مكتبة النهضة المصرية، 2000م، (3/ 10).
([14]) لم يصلنا إلا النزر اليسير من مؤلفات المتقدمين في علم الكلام على الرغم من كثرتها، فقد ذكر الملطي في كتابه «ولتنبيه والرد»: أن أبا الهذيل العلاف - وهو من معتزلة البصرة - وضع ألفًا ومائتي مصنف في علم الكلام يرد فيها على المخالفين. الملطي، «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع»، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، القاهرة 1948م، (ص 252).
([15]) الشهرستاني، عبد الكريم: «الملل والنحل»، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1984م، (1/ 36).
أو يقال: «لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا» «شرح العقائد النسفية»، للتفتازاني: (14 - 15)، وكذا «شرح المقاصد: (1/ 6).
([17]) ابن خلدون: «المقدمة»، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، نشر دار نهضة مصر، الطبعة الثالثة، 1979 - 1981، (ص 1069).
([18]) الغزالي، أبو حامد: «المنقذ من الضلال»، تصحيح محمد جابر، المكتبة الثقافية، (ص 14).
([19]) الجاحظ: «الحيوان»، تحقيق وشرح محمد هارون، الطبعة الثالثة بيروت، لبنان، 1969م، (ص 4/ 206).
([20]) الشهرستاني: «الملل والنحل»، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1984م، (1/ 36).
([21]) الجاحظ: «البيان والتبيين»، تحقيق وشرح: محمد عبد السلام هارون، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان، 1969م، (1/ 139).
([22]) الجاحظ: «البيان والتبيين»: (1/ 139).
([23]) الإيجي: «شرح المواقف في علم الكلام»، دار الجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1997م، (ص 1/ 31).
¥