تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فابن خلدون يقرر أن «نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق» ([31])، فالعقل لا يمكن أن يحيط بجميع الكائنات وأسبابها، أو الوقوف على تفاصيل الوجود كله، فالعقل بحسب ابن خلدون قاصرٌ عن بعض الإدراكات وذلك بسبب أن «هناك ضربًا من الإدراك غير مدركاتنا، طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من عقلك، وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزانٌ صحيحٌ، وأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقائق النبوة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره فإنه طمع في محال» ([32]).

فالهدف الأسمى لعلم الكلام الخلدوني هو توحيد الله، وهو أمر يعجز العقل عن إدراكه، ذلك أن التوحيد بحسب ابن خلدون هو: «العجز عن إدراك الأسباب، وكيفية تأثيرها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها» ([33])، فالعقل في مجال الإلهيات له دور يتحدد في «قبول الأمور النقليّة وتخريج طرقها وتأويل جوهرها» ([34]).

يحرص ابن خلدون على التَّمييز بين منهج الكلام والفلسفة، ويعتبر أن سبب الالتباس والضلال إنما نشأ عن الخلط بين المنهجين، فالمتكلمون الأوائل حرصوا على الابتعاد عن الأقيسة المنطقية، والبراهين الفلسفية بسبب مخالفتها للشرعيات، ثم إنهم اعتمدوها في سبيل الدفاع عن العقائد بنفس حجج خصومها، حيث اختلطت المسائل والقضايا، ولعل هذا التداخل الذي حصل بين العلمين والخلط فيه المنهجين بحيث «التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنَّين عن الآخر» ([35])، وأمرٌ لا يمكن التَّشكيك فيه، إلا أنه حدث مع متأخرين المتكلمين كالبيضاوي (ت 685هـ)، والتفتازاني (ت791هـ)، والإيجي (ت756هـ)، والجرجاني (ت 816هـ).

إلا أن هذا الخلط كان قد حدث في فترة مبكرة - فيما يؤكد ذلك الشهرستاني - بسبب عملية الترجمة، التي ساهمت بشكل بالغ في تكوين عقلية منطقية، عملت على صياغته العقائد صياغة عقلية منطقية، فهو يقول: «طالع شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون فخلطوا مناهجها بمناهج الكلام» ([36]).

وإذا كان ابن خلدون قد أخرج المعتزلة من زمرة المتكلمين؛ فإنه قد غفل أيضًا عن أن هذا الخلط بين الفلسفة والكلام قد انتقل إلى متكلمي أهل السنة في القرن الخامس الهجري، حيث امتزجت مباحث الكلام بالمنطق على يد الباقلاني (ت 403هـ)، والجوبني (ت 478هـ)، والغزالي (ت 505هـ)، والفخر الرازي (ت606هـ)، والآمدي (ت 631هـ).

يمكن القول: إن ابن خلدون يتبنى هنا رأيًا ينتمي إلى المجال المغربي للأشعريَّة المالكيَّة، التي تتسم بنزعة سلفيَّة، تقترب من سلفيَّة الإمام المؤسِّس أبي الحسن الأشعريّ، الذي أعلن في كتابه «الإبانة عن أصول الديانة» ولاءه للإمام أحمد بن حنبل، وانطواءه تحت مذهبه ([37])، بخلاف متأخري الأشاعرة كالرازي الذي اقترب أكثر من المعتزلة والفلاسفة.

فابن خلدون حريصٌ على عدم مخالفة النَّسق الفكري للأشعريَّة المالكيَّة في المغرب، والتي تنتمي إلى طريقة السَّلف، التي تقدّم الإيمان بظواهر النُّصوص مع تفويض متشابهها واجتناب التأويل، ويظهر ذلك جليًّا في المقدمة العقدية التي صدَّر بها الإمام عبد الله ابن أبي زيد القيرواني (ت 386هـ) رسالته الفقهية الشهيرة بـ «الرسالة»، والتي جاء فيها: «إن الله على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى، والصفات العلى» ([38]).

وكانت الأشعريّة قد دخلت المغرب بعد وفاة أبي الحسن الأشعريّ (ت 324هـ) أواخر القرن الرابع، فيما برز في المذهب أبو بكر الباقلاني (ت403هـ) معمِّقًا لمقولاته، منظِّرًا لمنهجه؛ فبلغ علم الكلام على يديه النضج ([39])، ولما كان الباقلاني مالكيًا بل إليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته، كما يذكر القاضي عياض ([40])، فقد قصده أهل المغرب في رحلاتهم العلمية، ليأخذوا منه المذهب المالكي، حيث أخذوا منه أيضًا الطريقة الأشعريّة في العقيدة، ومنذ أواخر القرن الرابع بدأ الأثر الأشعريّ يظهر جليًا في المغرب وينتشر على يد تلاميذ الباقلاني العائدين إلى القيروان من أمثال: أبي الحسن علي بن محمد القابسي (ت 403هـ) الذي أخذ المذهب بصورة غير مباشرة، وأبي عبد الله الأَذَرِيّ، وأبي طاهر البغدادي، وأبي عمران الفاسي (ت 430هـ) ([41]).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير