تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم كثر تلاميذ هذه الطَّبقة فازدادت الأشعريّة انتشارًا وشيوعًا، وانتهت عن طريق تلميذ الفاسي أبي محمد عبد الحميد بن الصائغ (ت 486) إلى أحد أكبر أعلام المالكيَّة، وهو أبو عبد الله محمد بن علي المازري (ت 536هـ) الذي أصبح المؤصِّل الحقيقي للمذهب الأشعريّ بأفريقية، كما هو واضح في كتابه «المُعْلم بفوائد مسلم» ([42]).

ولما بسطت الدَّولة الموحديَّة سلطانها على إفريقية في منتصف القرن السادس أصبح المذهب الأشعريّ هو السائد، بفضل ابن تومرت (ت 524هـ)، وأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي (ت 543هـ)، حيث أخذ كلاهما عن الإمام الغزالي (ت 505هـ)، عقب رحلتيهما إلى المشرق، وجلب أبو بكر ابن العربي معه عددًا من مؤلفات الباقلاني والجويني والغزالي. ([43])

إن طريقة المتأخرين وجدت سبيلها إلى المغرب، وبدأ تأثيرها منذ أواسط القرن السابع، وذلك حينما رحل إلى المشرق بعض طلبة العلم فأخذوا عن تلاميذ الفخر الرازي ومنهجه في المزج بين العقل والنقل والكلام والفلسفة، ثم عادوا وأشاعوا هذا المنهج الذي أخذ بالانتشار شيئًا فشيئًا، حيث تأثر به ابن خلدون في بداية حياته، عندما وضع مختصرًا لكتاب المُحصّل للرازي، وأطلق عليه «لباب المُحصّل».

ويذكر ابن خلدون أن أول من أدخل هذه الطريقة إلى إفريقية هو القاضي أبو القاسم بن زيتون (ت 691هـ)، وأخذ عنه تلاميذه هذا المنهج، مثل محمد بن الحباب (ت 741هـ)، ومحمد بن عبد السلام (ت 749هـ)، وعن هذين الإمامين أخذ الإمام الشهير ابن عرفة الوَرْغٍميّ (ت 803هـ)، - وهو معاصر لابن خلدون - ألف كتابًا شهيرًا، وهو «المختصر الشامل»، وتبنى رأيًا إيجابيًا في علم الكلام وموضوعه ووظيفته وهدفه، وهو القاضي الشهير الذي استغرب أن يتولى ابن خلدون وظيفة قاضي القضاة في مصر ([44]).

ولعل عدم قدرة ابن خلدون على مجاراة ابن عرفة في علم الكلام، حملته على الحط من هذا العلم، وجعلته يتبنى موقفًا أكثر سلفيَّة يدعو فيه إلى العودة بعلم الكلام إلى سابق عهده على نحو ما كان عليه السلف من أهل السنة، وهو موقف يعتمد على النقل دون التدخل في مسالك العقل والنظر، اتساقًا مع إيمانه أن التوحيد يعني إدراك العجز، حيث يستشهد في ذلك بما رواه عن أبي القاسم الجنيد الصوفيّ من أنه مرَّ بقوم من المتكلمين يفيضون في علم الكلام، فسأل عنهم فقيل: «إنهم قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص، فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب» ([45]).

إن التمييز الذي يعتمد عليه ابن خلدون بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في علم الكلام كان سائدًا في عصره، حيث نجد مثل هذا التمييز لدى شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك ابن عرفة، إلا أن هذا التمييز لا يبدو دقيقًا؛ فإن القول بأن الغزالي أول من كتب على منحى المتأخرين لا يصمد أمام التاريخ، وكذلك طريقة المتقدمين الذي يعتبر إمامها الباقلاني الذي يعتبره ابن خلدون أول من وضع طريقة تقوم على اعتماد المذهب الذّري أولًا ([46])، ثم على العلاقة المثبتة بين الأصول الفلسفية والعقدية، وعلى القول بأن «بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول» ([47]).

وبحسب ابن خلدون: انتشرت من بعد الجويني علوم المنطق في الملَّة، وقرأ الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، تسبر به الأدلة، كما يسبر سواها، ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين؛ فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلى ذلك، وربما كان كثير منها مقتبسًا من كلام الفلاسفة في الطبيعات والإلهيات، فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا ببطلان المدلول على بطلان دليله للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين ([48]).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير