وابن خلدون بهذا ينطلق كما هو شأن الأشاعرة، من مفهوم السببية الخاص الذي يؤول إلى إلغائها، وهي النقطة التي انتقدها خصوم الأشاعرة كابن تيمية وابن رشد، إلا أن ابن خلدون يضع حدودًا للعقل كمدرك لترتيب الحوادث الخارجية، ثم يفسح المجال للنفس للتوصل إلى حقيقة أعم، تربط حوادث الكون ربطًا متسلسلًا، يحمل النفس على الاعتقاد في سبب أول هو مسبب الأسباب، وهذا عين التوحيد، الذي يجمع بين مقام العلم الذي يقدمه علم الكلام، ومقام الحال الذي يقدمه التصوف، والأول وسيلة لبلوغ الثاني.
فعلم الكلام عاجز عن بلوغ "التوحيد المطلق"، فحقيقة ذات الله وصفاته لا تدرك بالعقل المقيد في حدود الحس والتجربة، ومعرفة الله حق المعرفة لا تكون إلا بالنفس التي يشتغل بها التصوف لحصول "المشاهدة" والاتصال المباشر مع الحقيقة الإلهية.
يرى ابن خلدون أن التصوف يتوافق مع ما يمتاز به الإنسان من انتماء متردد بين العالم الطبيعي والعالم فوق الطبيعي، فالإنسان بما لديه من "لطيفة ربانية" وهي النفس يتشوف وينزع إلى عالم الغيب عن طريق الرؤيا، أو الحدس أو الوحي؛ فالإنسان بطبيعته متصوف، والسبب في تأخر ظهور التصوف في السلف إنما كان بسبب قرب الأنوار النبوية، ولم تكن النفوس بحاجة إلى جهد إضافي، لكي تصفو، ومع ظهور البدع والاختلاف جاء التصوف كرد فعل لنفوس تسعى إلى إنقاذ صفائها.
إن التصوف الذي يأخذ به ابن خلدون مقيد بحدود الشرع، ولا يخرج عن حدود التصوف السني المعتدل، ويظهر ذلك جليًا من خلال التعريف الذي يقدمه، وكذلك المصادر التي يعتمد عليها في «شفاء السائل» كـ «الرعاية» للمحاسبي، و «الرسالة» للقشيري، و «الإحياء» للغزالي، و «روضة التعريف» لابن الخطيب ([49]).
وينكر ابن خلدون نمط التصوف الباطني ويحمل عليه بشدة، واصفًا إياه بالبدعة والضلالة، ويهتم بشكلٍ أساسيّ بغلاة المتصوفة من الأندلسيين، ومعظمهم من أتباع ابن العريف في المرية التي كانت تشكل مركزًا للتصوف الباطني، كما يذكر أسن بلاثيوس في الأندلس.
وتناول ابن خلدون في «المقدمة» و «شفاء السائل»، متصوفين من أتباع ابن العريف بالنقد الشديد، وفي مقدمتهم ابن قِسِّي وابن عربي، متهمًا إياهم بالكفر لقولهم بالحلول ([50]).
إن الفشل الذريع لعلم الكلام - بحسب ابن خلدون - ينبع من عجزه عن تحصيل اليقين في قضايا ما وراء الطبيعة، أما التصوف الذي يتوسل بالنفس وليس العقل، فهو قادر على تحصيل ذلك، فالنفس جزء لا يتجزأ من عالم ما وراء الطبيعة، إلا أنها لا تستطيع أن تنقل إلى عالم الطبيعة ما تشاهده في عالمها، وإنما يحصل لها إدراك ذاتي"وهي عين المشاهدة التي يرومها التصوف، ولذلك لا يطلب تفصيل القول بمشاهدة النفس فذلك مستحيل، وإنما المطلوب هو شرح الكيفية التي تحصل بها المشاهدة.
وهي كما يقول ابن خلدون: «سبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت الروح، وغالب سلطانه وتجدد شوقه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيُّد إلى أن يصير شهودًا بعد أن كان علمًا، ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة، وهذا الكشف كثيرًا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدركه سواهم، وكذلك يدركون كثيرًا من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرفون بهممهم، وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم» ([51]).
من الواضح تمامًا أن هذه النتيجة التي توصل إليها ابن خلدون، تنسجم تمامًا مع رؤيته للوجود ومراتب العلوم، حيث هناك ثلاثة أنواع ممكنة من المعارف:
أولًا: المعارف العقليّة التي تصدر عن الحس والتجربة، وتعتمد على الخبرة اليومية المباشرة، فإذا كانت عبارة عن تصورات فهي من عمل "العقل التمييزي" وإذا كانت تفيد الترتيب بين الحوادث فهي من عمل "العقل التجريبي" وإذا كانت قائمة على الجمع بين التصورات والتصديقات فهي من إنتاج "العقل النظري"، الذي يمثل أعلى مراتب الفكر الإنساني.
ثانيًا: معارف نفسانية تصدر عن الوحي، وتختص بالأنبياء والرُّسل.
ثالثًا: معارف نفسانية تصدر عن الرِّياضة وتحصل بالاكتساب، ولا مدخل فيها للوحي، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: معارف المتصوفة، ومعارف الكهان، ومعارف الرؤيا الصحيحة ([52]).
إن الكشف والمشاهدة التي تحصل للسَّالك من "أهل المجاهدة" لا تتم بإرادته، فالتجربة الصوفيّة التي تبلغ مرتبة "الكشف" هي ذاتية لا تقبل النقل والتَّوصيل، فهي عبارة عن "ذوقٍ" لا تستطيع اللغة التعبير والإفصاح عنه؛ لأن اللغة إنما استقيت من المحسوسات، أما الكشف فيستقي معارفه من عالم ما وراء الحس، فاللغات بحسب ابن خلدون" لا تعطي دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات ([53]).
وبهذا فإن علم الكلام يقف عاجزاَ لتعلقه بالحس والتجربة ولا سبيل إلى تحصيل المعارف الإلهية سوى بالالتجاء إلى النفس التي تعلو مرتبتها العقل، وتتجاوزه في تحصيل اليقين والمعرفة الحقة التي هي أساس التوحيد، فالعجز عن الإدراك إدراك، ولذلك جاء حكم ابن خلدون بفشل علم الكلام وإخفاقه لطلبه أمورًا تقع فوق طاقة العقل، وإمكاناته المقيَّدة.
([49]) ابن خلدون، «شفاء السائل وتهذيب المسائل»، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1997، (ص 34، و35، و234).
([50]) ابن خلدون، «المقدمة» (ص 2111)، و «شفاء السائل» (ص 74).
للمزيد من الاطلاع على المدرسة الأندلسية في التصوف، وآراء ابن عربي يمكن الرجوع إلى بلاثيوس أسين، «ابن عربي حياته ومذهبه»، ترجمه عن الإسبانية عبد الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات، الكويت، 1979م.
([51]) ابن خلدون: «المقدمة»، (ص 1076).
([52]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1109–1115).
([53]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1079).
¥