أما في كتابه «لباب المُحصّل» فهو يتابع الرازي بشكل خاص، والأشاعرة بشكل عام في تقسيم الوجود إلى واجب الوجود لذاته، وهو الله. وممكنٌ وهو ما عداه، ويقسم الحوادث إلى حال ومحل، ومدبر لهما ينطبق على العقل والنفس، والمحل هو الموضوع أو الهيولى التي يحل فيها الحال، والطبيعة تنقسم عنده إلى موضوع هو مادة، أو هيولى تتشكل بالأعراض، ويقابل العرض المقولات الأرسطية، فالمحل هو الجوهر، والأعراض هي المقولات التي تلحق بالجوهر؛ كالزمان والمكان والكم والكيف والوضع والإضافة والملك والفعل والانفعال ([63])، كما أن الطبيعة مركبة من موجودات، وكل موجود مركب، وتتكون الطبيعة من أجسام مركبة من الجواهر والأعراض، حيث تبنى ابن خلدون في «لباب المُحصّل» نظرية الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ ([64]).
ويظهر ابن خلدون في هذا الكتاب الذي لم يذكره في مؤلفاته مقلدًا للنسق الأشعريّ، إذ لا نجد فيه أصالة وتجديدًا، وإنما تكرار لما ذهب إليه الرازي، الأمر الذي جعل البعض يتشكك في نسبة الكتاب إليه ([65])، وقد أثارت مسألة السببية جدلًا واسعًا لدى دارسي فكر ابن خلدون بسبب الغموض الذي يهيمن على خطابه الكلاميّ والطبيعي فقد وصفه عمر فرّوخ بالتناقض بسبب ميله إلى الأشاعرة تارةً وإلى الاستقلال تارة أخرى ([66])، وينسبه الدكتور على الوردي إلى الأشاعرة، ويرى أن مذهبه في السببية امتداد لرأي الغزالي ([67]).
وذهب طه حسين إلى وضع ابن خلدون ضمن القائلين بالحتمية والضرورة السبيبية ([68])، ولعل السبب في هذا الخلاف هو تردد ابن خلدون بين علم الكلام والتصوف، فعلى مستوى الطبيعية نجده يؤكد فعالية الأسباب؛ لأن الله قد جعل العالم كله «بما فيه من المخلوفات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان» ([69])، أما بخصوص الأسباب والعلل البعيدة فإن ابن خلدون يحصرها في نطاق النفس التي من شأننا إدراك الأسباب؛ فالأسباب لا تزال ترتقي حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو ([70])، فالعقل عاجز في مجال المعرفة الإلهية، وإنما يحيط علمًا في الغالب بالأسباب التي هي طبيعية ظاهرة، ويقع في مداركها على نظام وترتيب ([71])، وإذا تجاوزت الأسباب نطاق الطبيعة فإن العقل لا يمتلك القدرة بالكشف عن الأسباب «فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع» ([72]).
وينصح ابن خلدون الإنسان بأن يسلم بعجزه عن إدراك الأسباب، وكيفيات تأثيرها، ويطلب تفويضها إلى خالقها المحيط بها ([73])، فقد يقف الناظر عند حلقة من السلسلة ويظنها منتهى الأسباب، وينكر ما ورائها؛ فيكون قد أنكر مسبب الأسباب وخالقها، ويصير من الضالين الهالكين ([74]).
وعلى الرغم من حرص ابن خلدون على التنبيه على التأثيرات المتبادلة بين الأشياء في الوجود إلا أنه يقرُّ بأن «تأثير هذه الأسباب في كثير من مسبباتها مجهول، ولأنها إنما يوقف عليها بالعادة والاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر، وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة» ([75])، ولعل هذا النص من أكثر نصوص ابن خلدون وضوحًا في موضوع السببية، وهو يتطابق مع المنظور الأشعريّ، ولا يخرج عنه في فهم دور العقل في مجال المعرفة وقصوره وعجزه.
([54]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1109 و ص 1076).
([55]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1018).
([56]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1019).
([57]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1229).
([58]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1071).
([59]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1211).
([60]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1247).
([61]) للمزيد من التفصيل حول الفكر الطبيعي وسمات المشروع البرهاني في النص الخلدوني وطبيعته في الاستدلال، يمكن الرجوع إلى: الدكتور طه عبد الرحمن «اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1998م، (ص 387 - 398).
([62]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1147).
([63]) ابن خلدون: «لباب المحصل» (ص 41 - 42).
([64]) ابن خلدون: «لباب المحصل» (ص 59 - 61).
([65]) انظر المقدمة التي كتبها الأستاذ الدكتور محمد علي أبو ريان بعنوان: (علم الكلام الخلدوني بين لباب المحصل والمقدمة: دراسة مقارنة) (ص 9– 23) ضمن «لباب المحصل»، دار الموقر الجامعية الإسكندرية (1916م).
([66]) د. عمر فروخ: موقف ابن خلدون من الدين والقضايا الدينية، ضمن أعمال «مهرجان ابن خلدون» القاهرة، 1962، (ص 413).
([67]) د. علي الوردي: «منطق ابن خلدون»، دار كوخان، لندن، الطبعة الثانية، 1994، (ص 63).
([68]) د. طه حسين: «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، ترجمة د. عبد الله عثمان، القاهرة، 1925، (ص 41).
([69]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 404).
([70]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1079).
([71]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1069).
([72]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1072).
([73]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1072).
([74]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1070).
([75]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1070).
¥