ـ[محمد الحسن]ــــــــ[25 - 10 - 07, 05:43 م]ـ
سادسًًًًا: الإلهيات بين الذات والصفات
يقوم ابن خلدون في كتابه «لباب المُحصّل»، بإثبات وجود الله بطريقتي الحدوث والإمكان ([76])، وهو يتابع الرَّازي ومتأخري الأشاعرة، أما في المقدمة فإنه يبدي موقفًا أكثر انفتاحًا، وأشد صرامة ينسجم مع الموقف الأشعريّ المالكي المغربي، ويمزج بين الموقف الكلاميّ والصوفيّ والسلفيّ، فالله قديمٌ لا أوَّل له، «ولا يوجد في الزَّمان، ولا ينطبق عليه الزمان بأقسامه الماضي والحاضر والمستقبل»، كما في «لباب المُحصّل» ([77]).
أما في المقدمة فإنه يحصر طرق معرفة الذات الإلهية وإثبات قدمها، بالطريق النقليّ دون العقليّ، فهو يقول: «اعلم أن الشَّارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق، لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود، إذ ذلك متعذّرٌ على إدراكنا، ومن فوق طورنا» ([78])، فالعقل الإنسانيُّ عاجزٌ كما قرِّر ابن خلدون سابقًا، ولذلك فإن الاقتصار على القرآن الكريم، وما ورد فيه من أدلَّة كافيةٍ، ولا مطمع للعقل في إدراك ذلك، وهو يتابع في هذا السَّلف من أهل السُّنة، ويورد قول أم سلمة عندما سئلت عن بعض الأمور الإلهية: فقالت: «آمنا وصدقنا» ويذكر قوله تعالى:} وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {، [آل عمران: 7] ([79])، ويعتمد على قوله تعالى:} لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا {[الأنبياء: 22]، وهو الدليل الذي عُرِف لدى المتكلمين، بدليل التَّمانع، وهذه طريقة قرآنية لإثبات وحدانيَّة الذَّات الإلهيَّة، فهو يقول: «توحيده بالإيجاد، وإلا لما يتم الخلق للتمانع» ([80]).
أما بخصوص الصفات الإلهية فإن ابن خلدون يرى أن سبب الخلاف بين الفرق الإسلامية يرجع إلى أمرين:
اختلاف المناهج المتبعة، والآيات المتشابهات؛ فهو يقول: «اعلم أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتَّناظر والاستدلال بالعقل» ([81])، ويقرِّر ابن خلدون وجود نمطين من الآيات في القرآن الكريم في بيان الصفات الإلهية تدور بين التنزيه والتشبيه، تنطويان على آيات محكماتٍ، وأخر متشابهات، «وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود، بالتنزيه المطلق، الظاهر الدلالة، من غير تأويل في آي كثيرة، وهي سلوب كلها، وصريحة في بابها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرةً في الذات ومرة في الصفات» ([82]).
ينصر ابن خلدون مذهب أهل السنة والسلف في مسألة الذات والصفات، ويستند إلى قولهم: «"أقروها كما جاءت ([83]) "، أي آمنوا بها وبأنها من عند الله، ولا تتعرضوا لتأويلها وتفسيرها؛ لجواز أن تكون ابتلاءًا فيجب الوقوف والإذعان» ([84])، ويحمل بشدة على المشبهة والمجسمة الذين بالغوا في الإثبات، ويشن حملةً شعواء على دعاة التنزيه وخصوصًا المعتزلة الذين بالغوا في التنزيه، فوقعوا في التَّعطيل، ولذلك فإنه يكيل المديح والثناء إلى مذهب السَّلف المُفَوِّضة، ويرى أن القرآن امتدحهم ووصفهم بقوله:} وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ {[آل عمران/ 7] وهذا ينطبق كما يرى على أهل السنة.
«ولهذا جعل السَّلف (والراسخون) - مستأنفًا -، ورجَّحوه على العطف، لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء، وقالوا: إن جاءنا من الله فوَّضنا علمه إليه، ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه فلا سبيل لنا إلى ذلك» ([85])، ويدخل إلى هذا الاتجاه الممدوح فرق الصِّفاتيَّة وأمثالها؛ كعبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، وأبو العباس القَلَانِسِيّ، والحارث بن أسد المُحَاسِبِيّ، وهؤلاء بحسب ابن خلدون من أتباع السَّلف، وعلى طريقة أهل السُّنة حيث أثبتوا الصِّفات القائمة بذات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة، وكان مذهبهم إثبات الكلام والسَّمع والبَصر ([86]).
ويثبت ابن خلدون الصِّفات الخبريَّة، ولا يرى في تأويلها منهجًا سديدًا، لأنَّ ذلك واقعٌ فوق طور العقل ومجال إدراكاته.
([76]) ابن خلدون: «باب المحصل» (79– 80)
([77]) ابن خلدون: «لباب المحصل» (ص 44).
([78]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1075).
([79]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1084).
([80]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1076).
([81]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1076).
([82]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1077).
([83]) أخرج هذا الأثر: الدراقطني في «الصفات»: 75، والآجري في «الشريعة»: 314، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» 3/ 503، رقم: 875، و527، ورقم: 930، والبيهقي في «الاعتقاد» ص72، و «الأسماء والصفات»: 569، وابن عبد البرّ في «التمهيد»: 7/ 149، و «جامع بيان العلم وفضله»: 2/ 96، والذهبي في «العُلُوّ»: 103 - 105، 147، و «تذكرة الحفاظ»: 1/ 304، وابن حجر في «فتح الباري»: 13/ 407.
وقريب من هذا ما ذكره الترمذي في «السنن»: 4/ 692، عقب بعض أحاديث الصفات عن جماعة من أهل العلم بقوله: «والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوريِّ، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهِم أنّهم رَوَوْا هذه الأشياء، ثم قالوا: تُرْوَى هذه الأحاديثُ، ونؤمن بِها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروَى هذه الأشياء كما جاءت، ويُؤْمَن بِها، ولا تُفَسَّرُ، ولا تُتَوَهّم، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه، وذهبوا إليه». وكذا 5/ 251.
([84]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1077).
([85]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1085– 1086).
([86]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 1088).
¥