السياسية والدينية معًا، ولذلك قالوا: إن «الإمامة هي أخت الخلافة» ([104]).
وبخصوص التسمية فإن ابن خلدون يرى أن الإمامة نسبت إلى أبي بكر الصديق؛ لقيامه بالصلاة بدلًا عن النبي e، فقال: «جاء تشبيهه بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به، وأما تسميته خليفةً فلكونه يخلف النبي في أمته، فيقال: خليفة بإطلاق، أو خليفة رسول الله» ([105]).
والإمامة ضروريةٌ يحتاج إليها المجتمع، فالمُلك منصبٌ طبيعي للإنسان، لأن البشر لا تتيسر حياتهم ووجودهم إلا بالاجتماع، والتعاون على تحصيل القوت وضرورياتهم، والاجتماع يقتضي بالضرورة الحاجة إلى المعاملات وقضاء الحاجات، فيؤدي إلى التنازع والاختلاف لما في البشر من طبيعية حيوانية من ظلم وعدوان، فيقع «التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدِّي إلى الهرج وسفك الدماء، وإذهاب النفوس، المفضي ذلك إلى انقطاع النوع، وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة، واستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم» ([106]).
وينقسم الملك عند ابن خلدون إلى ثلاثة أنواع: طبيعي وسياسي وخلافة، فالملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقليّ في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجع إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي على الحقيقة «خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا» ([107])، ولهذا فإن نمط الخلافة هو المفضل لابن خلدون، ذلك لأنه يجمع محاسن الدنيا والآخرة.
ويرى ابن خلدون أن الإمامة واجبة شرعًا، إلا أنها لا تعتبر ضمن عقائد الدين، وإنما هي وظيفة دينية اجتماعية من أجل صلاح المجتمع وتنظيم أموره، «فالاجتماع ضروريٌّ للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها» ([108])، ولذلك فقد قرر ابن خلدون رأي أهل السنة بقوله: «قال جمهور أصحابنا والمعتزلة: إن الإمامة واجبةٌ سمعًا» ([109])، وردّ على القائلين بأنها واجبة عقلًا كالشيعة، وبعض المعتزلة فضلًا عن القائلين بعدم وجوبها أصلًا كالأصمّ من المعتزلة وأغلب الخوارج.
ويحصر ابن خلدون طرق اختيار الإمام وتعينه عند المسلمين بطريقتين؛ النَّص، والاختيار، قال بالنَّصّ الشِّيعة الذين اتفقوا على أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، وإنما هي ركنٌ من أركان الدين، لا يجوز إغفالها من قبل النبي، بل يجب عليه تعين الإمام، وهو ما فعله النبي e بالنَّصِّ على إمامة عليّ بن أبي طالب، كما ترى الشيعة.
ويشير ابن خلدون إلى اختلاف الشيعة في هذا النص والذي يدور بين القول بالنصّ الجليِّ الواضح، والقول بالنصّ الخفيّ المُرمّز، وينتقد ابن خلدون كلا الاتجاهين، فلو كان النص جليًّا لما حدث اختلاف بينهم، ويرفض القول بالنص الخفي، لاعتماده على تأويلات مسرفة غير صحيحة، وأحاديث موضوعة، ولذلك يقول: بأن هذه النصوص كانوا «ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة» ([110]).
كما عارض الشيعة في مسألة العصمة، أما الاختيار فهو رأي جمهور الأمة من السنة والمعتزلة والخوارج.
أما بخصوص الشروط التي يجب أن تتوافر في الإمام فإن ابن خلدون يحصرها في أربعٍ وهي: «العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء، مما يؤثِّر في الرَّأي والعمل». ([111])
ويرفض شرط العصمة الذي أوجبه الشيعة، والقرشية التي أجمع معظم فقهاء السنة ومتكلميها على أنها واجبةٌ، استنادًا إلى حديث «الأئمة من قريش» ([112]).
وينسجم ابن خلدون في رفضه لهذا الشرط مع رؤيته لطبيعة العمران والدولة، ويستند رفضه لهذا الشرط على عدم توفر الإجماع بخصوصه ([113])، ويرى أن المسلمين اعتمدوا هذا الشرط لظروف معيَّنة لم تعد صالحة بسبب «ضعف قريش، وتلاشي قوتهم، وتغلب الأعاجم عليهم، وصار الحل والعقد لهم» ([114]) وينسب ابن خلدون هذا الرَّأي إلى الباقلاني، ولعل الشرط الذي ينفرد به ابن خلدون في وجوب توفره في الإمام هو "العصبية" ([115]) وهو أحد المفاهيم المؤسسة للخطاب الخلدوني في علم العمران والتاريخ الإسلامي.
([104]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 638).
([105]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 579).
([106]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 573).
([107]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 578).
([108]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 576).
([109]) ابن خلدون: «لباب المحصل» (ص 127).
([110]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 587).
([111]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 582).
([112]) ورد من حديثِ جماعةٍ من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وعلي ابن أبي طالب، وأبو برزة الأسلمي. أما حديث أنس فأخرجه الحاكم: 4/ 501 (6962)، الطيالسي في «مسنده»: 1/ 284 (2133). وأبو نعيم في «الحلية»: 3/ 171، 5/ 8، 8/ 122 - 123. وأحمد: 3/ 129 (12329). والبيهقي في «السنن الكبرى»: 3/ 121 (5081)، وقال: (مشهور من حديث أنس رواه عنه بكير). والطبراني في «الأوسط»: 4/ 26 (3521)، 6/ 357. وأبي يعلى في «المسند»: 6/ 321 (3644)، 7/ 94 (4032)، 7/ 94 (4033). وأما حديث علي بن أبي طالب فأخرجه الطبراني في «المعجم الصغير»: 1/ 260 (425). وأبو نعيم: 7/ 242. والحاكم: 4/ 75 - 76. وأما حديث أبي برزة فأخرجه الطيالسي: 1/ 125 (926)، وأحمد: 4/ 421 (19792)، وكذا يعقوب بن سفيان، وأبو يعلى، والطبراني، والبزار، كما في «الفتح»: 13/ 101.
([113]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 583).
([114]) ابن خلدون: «المقدمة» (ص 583).
([115]) لمزيد من التفصيل حول هذا المفهوم. محمد عابد الجابري: «فكر ابن خلدون العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الخامسة، 1992.
¥