تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[محمد الحسن]ــــــــ[26 - 10 - 07, 02:42 ص]ـ

الخاتمة والنتائج:

يبدو أن من نافلة القول، التأكيد على المكانة الرفيعة التي حظي بها ابن خلدون شرقًا وغربًا، فمنذ أكثر من قرنٍ ونصف تتكاثر الدراسات الخلدونية مشكِّلةً حقلًا من الدراسات المتباينة الأغراض والمقاصد، فمن المعروف أن هذا العلامة الكبير اكتُشف من طرف الغرب في لحظة المغامرة الاستعمارية، ضمن سياقات الهيمنة والسيطرة والإخضاع، في حدود القرن التاسع عشر، وجرى التعرف عليه من خلال ترجمة الجزء المتعلق بـ «تاريخ البربر» وفق قراءةٍ تجزيئية مارست أسوأ أنواع الطمس والاستغلال المرتبط بالعملية الاستعمارية.

وفي بداية القرن العشرين شهدت الدراسات الخلدونية نقلةً حقيقية، بعد أن أخذت «المقدمة» الصدارة بدلًا من «تاريخ البربر»، حيث نجد نمطًا جديدًا من الخطاب الغربي، يعمل على إعادة دمج واستيعاب ابن خلدون منهجيًّا في سياق التاريخ الكوني الغربي، باعتباره أحد العبقريات العقلانية والحداثية التي ظهرت في بيئة تتسم بالانحطاط والجمود والتخلف، فابن خلدون يمثل الاستثناء الذي يثبت القاعدة بحسب الرؤية الاستشراقية، ومجمل الإنتاج الأيديولوجي الذي طوره الغرب حول الإسلام، باعتباره دينا همجيّا عنيفًا غارقًا في الفوضى والجهل، ويتوافر على رؤية غير عقلانية جامدة وساكنة، تلك الرؤية كانت إفرازًا طبيعيًّا للعقل "الأداتي" الغربي، الذي تكون في سياق المركزية الغربية التي تنطوي على ذات نرجسية متضخمة، تنزع إلى الهيمنة والسيطرة والاستغلال.

وقد شهد العالم العربي والإسلامي نشاطًا كبيرًا لإعادة الاعتبار لابن خلدون أولًا، وللذات العربية الإسلامية ثانيًا في سبعينيات القرن المنصرم، بعد أن بقي صامتًا وخجولًا حتى مطلع القرن العشرين، وبدأ الاعتراف به كأحد القيم السامية التي تظهر عظمة الإسلام وتسامحه، وكثرت الدراسات والأبحاث الخلدونية التي عملت على إعادة تملكه واستعماله في سياق الأيديولوجية الثقافية للقومية العربية، بحيث تحول ابن خلدون إلى رمزٍ، في عمليات الصراع الخطابي والمرئي بين الغرب والشرق من جهة، والعالم العربي والإسلامي بتياراته الإسلامية والقومية واليسارية من جهة أخرى.

ومع ذلك فإنه لا خلاف على المكانة الرفيعة التي يتمتع بها ابن خلدون في مجال التاريخ، وما اصطلح عليه بعلم طبائع العمران، بفضل عبقريته التي أبدعت عملًا تركيبيًّا فريدًا لا يزال صالحًا في كثير من جوانبه للإضاءة على بعض إشكالاتنا المعاصرة، وقادرًا على تفهم سلوك الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في عالمنا المطبوع بالفساد والعصبية، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن المكانة الطبيعية لهذا العبقري المحير في سياق المجال التداولي الإسلامي.

فالقول بأن ابن خلدون كان متكلّمًا أصيلًا كما ذهب إليه البعض، لا يصمد أمام البحث والدرس العلميين، ولا يخرج عن سياقات المبالغة والتهويل والافتخار، والمطالع المدقق لما أنتجه ابن خلدون في علم الكلام، سواء في شبابه عندما قام بتلخيص كتاب «المحصل» للرازي، أو ما كتبه في الفصل الخاص بعلم الكلام في المقدمة، التي أبدعها إبان نضجه أثناء إقامته في قلعة ابن سلامة، أو الإشارات الموجودة في مؤلفه «شفاء السائل»، والذي يدور حول التصوف، يجده لا يخرج في مجمل آرائه عن النسق الفكري الأشعري، الذي وصل إلى المغرب العربي، والذي يمتاز بنزعة سلفية محافظة بسبب غلبة المذهب المالكي الذي ينزع إلى تفضيل العمل على النظر، ولعل هذه النزعة هي التي حملته على القول بعدم الحاجة إلى علم الكلام في عصره، تلك الدعوة الخطيرة التي تشبه القول بإغلاق باب الاجتهاد، وتعبر عن رؤية قاصرةٍ لماهية ووظيفة هذا العلم الأصيل، فبحسب ابن خلدون تقتصر غاية علم الكلام في الرد على الخصوم من المبتدعة، تلك الوظيفة التي كفانا أئمة أهل السنة مؤونتها والانشغال بها لانقراض المبتدعة والمنحرفين، وهي رؤية تنطوي على تعصب وجمود، تجاه التيارات الكلامية التي ساهمت في بناء علم إسلامي إبداعي يتسم بالجدة والأصالة؛ فابن خلدون يربط نشأة علم الكلام بأبي الحسن الأشعري، ويستبعد سائر الفرق الإسلامية، وفي مقدمتهم المعتزلة، وينفي عنهم صفة التأسيس والسبق، بل ويحشرهم في زمرة المبتدعة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير