فبينما نجد فريقاً يتسرعون في إطلاق الكفر، فيكفرون بالكبيرة، ولا يحكمون بإسلام من نطق بالشهادتين، وصلى، وصام، وأدى فرائض الإسلام، مالم يتحققوا إسلامه بشروط حددوها لم ترد في الكتاب ولا السنة، وذلك كحال الخوارج ومن سار على نهجهم نجد فريقاً آخر فرط أيما تفريط، ومنع التكفير منعاً باتاً، ورأى أن من تلفظ بالشهادتين لا يمكن تكفيره بحال، بل قالوا: إنه لا يجوز تكفير شخص بعينه وإنما إطلاق الكفر يكون على الأعمال.
ومن هنا فهم لا يكفرون أحداً أبداً حتى المرتدين، ومدعي النبوة، وجاحدي وجوب الصلاة ونحو ذلك من الأمور التي أجمع أهل العلم على خروج أصحابها من دائرة الإسلام.
أما أهل السنة والجماعة فقد هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لإلتزامهم بالدليل الشرعي.
فهم لا يمنعون التكفير بإطلاق، ولا يكفرون بكل ذنب، ولم يقولون إن التكفير المعين غير ممكن، ولم يقولوا بالتكفير بالعموم دون تحقيق شروط التكفير، وانتفاء موانعه في حق المعين، ولم يتوقفوا في إثبات وصف الإسلام لمن كان ظاهره التزام الإسلام، أو ظهر منه إرادة الدخول فيه، بل يحسنون الظن بأهل القبلة الموحدين، وبمن دخل في الإسلام، أو أراد الدخول فيه.
ومن أتى بمكفر، واجتمعت فيه الشروط، وانتفت في حقه الموانع، فإنهم لا يجبنون، ولا يتميعون، ولا يتحرجون من تكفيره.
ث - وسط في باب أسماء الدين والإيمان، أو مسألة الأسماء والأحكام بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية:
والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من صدق بجنانه، وأقر بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع المنهيات.
وعلى هذا فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمناً باتفاق الفريقين.
ولكنهم اختلفوا: هل يسمى كافراً أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافراً، ويستحلون دمه وماله، أما المعتزلة فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين.
أما في أحكام الآخرة فاتفق الفريقان على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها فهو مخلد في النار.
أما المرجئة فكما سبق بيان مذهبهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق دخول النار.
أما أهل السنة والجماعة فمذهبهم وسط بين هاذين المذهبين، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو هو مؤمن ناقص الإيمان، قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بإنه كامل الإيمان كالمرجئة، وحكمه في الآخرة عندهم أنه قد يتجاوز الله –عز وجل- عنه فيدخل الجنة ابتداءً، أو يعذبه بقدر معصيته ثم يخرجه، ويدخله الجنة كما سبق.
ج - وسط في باب القدر بين القدرية والجبرية:
فالقدرية قالوا: إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدر، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر، ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله -عز وجل-، وإنما العباد هم الخالقون لها.
والجبرية غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا فعل، كالريشة في مهب الريح، وإنما تسند إليه الأفعال مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق، كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر.
أما أهل السنة والجماعة فتوسطوا وقالوا: نثبت للعبد مشيئة يختار بها، وقدرة يفعل بها، ومشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله –سبحانه وتعالى- تابعتان لها، لقوله تعالى "لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [التكوير:28 - 29]
ويقولون أيضاً العباد فاعلون، والله خالق أفعالهم، قال تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" [الصافات:96]، فأفعال العباد هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فعلاً وكسباً.
ح - وسط في محبة النبي –صلى الله عليه وسلم- بين الغالين والجافين:
¥