إن التأويل لم ينظر إليه باعتباره آلية من آليات القراءة- لا مفر منها كما عرفت -،ولكن نظر إلى خلفيته والباعث عليه ... فكان الإنكار متجها في القصد الأول لمنهج الفلاسفة والمتكلمين .. وجاء إنكار التأويل بالقصد الثاني ... فقد اصطنع المتكلمون التأويل لا للضرورة اللغوية العامة بل ذريعة فرضتها منطلقاتهم وأصولهم .. ومن ثم تجد التأويل عندهم منهجا مشتقا من مذهب التعطيل وهذا التعطيل نفسه فرع عن النظر العقلي الخالص ..
وبعبارة أخرى لقد أصبح التأويل عنهم إديولوجيا لتمرير مذهب لا يمكن أن يتحقق بدون تأويل داخل دائرة الإسلام ..
وآية ذلك أنك تجد عندهم التأويل كليا و مسبقا- أي قبل ملاحظة النصوص نفسها-فتراهم يقولون مثلا:
وكل نص أوهم التشبيها
أوله أو فوض ورم تنزيها
فهذه قاعدة قبلية عندهم تقضي على ملايين النصوص ما وجد منها وما سيوجد، وبذلك يفقد النص شخصيته ولو كان من قول رب العالمين!!
فلم يكن التأويل عندهم بسبب من النص ولكن بسبب من العقل .. وهذا معنى كونهم يقدمون العقل على النص فالأول حاكم على الثاني بالشخص والنوع في الحضور والغياب في الحاضر وفي الاستقبال ..
فلو قدر أن في اللوح المحفوظ كتابة مثل "لله يدان" لم يطلع عليها أحد ولم تنزل على أحد لقال المتكلم يجب إخضاعها للتأويل أو التفويض فحكم تعطيل الله من اليدين قائم إلى الأبد حتى لو قال الله نفسه ذلك لهؤلاء يوم يفصل بين المختلفين!!!
إن التأويل إذن قد يحصل لضرورة لغوية وقد يحصل لضرورة مذهبية ... قد يكون محليا يفرضه سياق ومقتضيات بلاغية وأعراف تداولية،وقد يكون منهجيا يفرضه اقتناع عقلي وتمسك بأكسيومات معينة .. من شأن التأويل المحلي أن يكون نابعا من طبيعة اللغة،جزئيا دائما، متعلقا بمحل مخصوص لا يعممه على غيره أما التأويل منهجا أو مذهبا فيكون نابعا من خلفية عقدية دائما، ومن ثم يكون كليا وقبليا،يؤول المؤول حتى قبل أن يقرأ النص! فانظر إلى هذا المسخ الذي اعترى التأويل!
وهذا مثال لتوضيح الأسلوبين في التأويل:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
هل نثبت لله يدا بمقتضى دلالة هذه الآية؟
لا تردد أبدا على طريقة صاحب التأويل المنهجي، فالله تعالى ليس له يد ولا بد من تأويل الكلام تأويلا يعين معنى غير معنى اليد "الحقيقية"، فإن لم نتبين المعنى المراد أو أشكل علينا تعيينه فلا مفر من اللجوء إلى السكوت والتفويض ..
هكذا يطوى بساط البحث سريعا .. فلا بحث في القرائن والسياقات ولا اعتبار لعادات العرب في كلامهم ولا فهم فاهم منه!!
لكن صاحب التأويل المحلي له نظر مغاير .. فليس منطلقه قاعدة فلسفية مسبقة سيعملها في الآية بطريقة آلية بل إن هذا النص-وإخوانه من النصوص- هو منطلقه الأول .. ولما كان النص بلغة عربية فلابد من فهمه على ضوء قواعدهم وعاداتهم وحدوسهم البلاغية:
لم تقل الآية "لله الملك " بل"بيده الملك " فنلحظ أن التقييد الذي يأتي عادة لقبض المعنى وتضييقه جاء هنا لبسطه وتوسيعه!
"لله الملك " دلالة على ثبوت الملك فقط،أما عبارة "بيده الملك " فقد أثبتت التصرف في الملك والتمكن منه فضلا عن ثبوته: فهو ملك يمنح وينزع يوهب ويسترد يتصرف فيه مالكه كما يشاء .. وما كان لهذه المعاني أن تخطر لو لم تذكر" اليد"لأن من لوازم اليد الأخذ والعطاء والقبض والإرسال .. ثم نلحظ أيضا العدول عن حرف "في" إلى حرف "الباء" إشعارا بأن هذا الملك ليس مستقرا "في يده" فقط ولكنه يمنح ويسلب "بيده" أيضا ..
فهل سيعتبر المؤول اليد- هنا- كناية عن التصرف؟
وهل سيفهم أن اليد الحقيقية غير مرادة وأن المراد بالضبط هو لوازمها وغاياتها من أخذ وعطاء؟
أقول لا مانع من هذا الفهم بل هو الراجح .. وهو فهم يسير على سنن العرب وبلاغتها .. فهم يقولون "بيده الأمر " أو ليس بيده الأمر" ولا يخطر ببالهم لحم ولا عصب ولا أنامل ولا أظفار وإنما غاية مرادهم معنى التمكن والتصرف إثباتا ونفيا ..
فهل أولت صفة "اليد"؟
نعم،لكن تأويل في هذا المحل فقط!
فلو قيل:
هل لله يد؟
سنقول:
أما في هذه الآية فثبوت اليد لله محتمل فقط ...
وأما تعطيل صفة اليد نهائيا فهذه دندنة المعطلة المبتدعة ..
وأما ثبوت اليدين لله من نصوص أخرى فذلك لا شك فيه ولا محيد عنه ..
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ..
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ..
فتثنية اليد قاطع بأن المراد اليد الحقيقية وليس شيئا معنويا فلم يعهد عن العرب التوسع في معنى اليد إلا وهي مفردة أو متعددة ...
وفي الرد على اليهود لا يعقل أن ينسبوا إلى الله نقصا وباطلا-وهو اليد الحقيقية - ثم يرد عليهم مقرا بالباطل بل شاهدا على نفسه بمضاعفة النقص و الباطل فيقول" بل يداه" ...
فتأويل هذه الآية هو إثبات يدين حقيقيتين لرب العالمين مع الإمساك عن التمثيل والتكييف ...
بهذا التأصيل يرتفع التشغيب:
فلو قيل إن ابن عباس رضي الله عنهما قد أول الساق ... أجبنا هذا خطأ فهو لم يأول "الساق" بل أول كلمة ساق المنكرة في محل هو قوله تعالى:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
ففهم من تعبير "يكشف عن ساق" معنى معروفا في العربية له شواهده وهو أوان الشدة والحسم ... أما القول بأن ابن عباس ينكر الساق لله مطلقا فهذا خطأ وأما تعميم التأويل المحلي ليصبح منهجيا فيقال إن ابن عباس عندما أول الساق فهو يؤول أيضا الوجه واليد والمجيء والنزول والاستواء والكلام والضحك والتعجب فهذا زور وبهتان!!!
¥