[ورطة الأشعرية في تعليل "رؤية" رب البرية ..]
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[17 - 12 - 08, 01:50 ص]ـ
[ورطة الأشعرية في تعليل "رؤية" رب البرية ..]
عندما أراد أبو الحسن الأشعري -رحمه الله-أن يجعل رؤية الله أمرا معقولا، رغم نفيه للجهة و المقابلة- وهو ما يعتبره خصومه المعتزلة من باب المحال-قال إن المصحح للرؤية هو "الوجود" .. !
هذا الجواب عند التحقيق هومجرد هروب إلى الأمام كما يقال .. فمثله كمثل من يطلبه وحش خلفه فيضطر إلى ضربه بكل ما تصل إليه يده من عشب وورق أو غير ذلك مما لا يدفع صائلا ... !
غير أن أتباعه لا سيما من تأخر بهم الزمان، جعلوا جواب إمامهم - الذي اضطر إليه اضطرارا- ... ضابطا عاما يفصل بين ما يمكن أن يوجد وما لا يمكن .. فتجدهم في الشروح والحواشي يقولون هذا موجود لأنه يرى أو هو قابل للرؤية .. !
وشنع عليهم خصومهم أي تشنيع:
الصوت يرى على مذهب الأشاعرة ... والرائحة ترى على مذهبهم ... وعين الأشعري يمكن أن تدرك الحلاوة كما تدرك السواد ... وأعمى الصين يمكن أن يرى نملة تدب في طليلطة في الليل البهيم ..
كل هذا ممكن ... لأنها كلها موجودة .. افترض ما شئت من الموجودات فهي مرئية بالضرورة.
ولست أدري هل إلزامهم تلك الرؤية أشنع أم إلزامهم رؤية المعقولات ... كرؤية العدالة و الحرية و السعادة .. فيصبح عالم المعقولات عالما من الألوان الزاهية تشع فيه الافكار والمفاهيم لأن علماء البصريات-المعاصرين- يرون الرؤية مرتبطة بما يشع عن الأجسام وبما تمتصه من الأشعة .. فيكون مصير الأشعرية إلى القول بحسية الأفكار مع اعتبارها عقلية أي مفارقة للحس .. وهذا تناقض فاحش ... لكن يبدو أن الرؤية عندهم ميتافزيقية وهذا أغرب من الكشف الصوفي!!
لن نعرج عن التفصيل العلمي لفزياء البصريات بل نريد أن نبقى مع الأشاعرة لنسائلهم في مجال الميتافزيقا ...
كيف سووا بين مقولة الوجود ومقولة الإدراك!
لأن ما قالوه عن مسألة "الرؤية" يجب أن يطرد وإلا وجب عليهم أن ينفضوا أيديهم من العقليات ..
فلا مفر لهم من التلازم بين المقولتين:
هم يرون الوجود مصححا للرؤية .. فيكون التلازم من قبيل العلة والمعلول وليس من قبيل الشرط والمشروط:
فلو كان الوجود شرطا للرؤية لحصل وجود بدون رؤية كما يحصل الوضوء من غير صلاة .. وهذا يفوت حجة الأشعري .. لأن لخصومه أن يقولوا" الله موجود ولا يرى" لأن الوجود شرط للرؤية والشرط قد يقترن بالمشروط وقد يتخلف وهنا تخلف .. فلا بد للأشعري أن يقول بل الوجود علة للرؤية ..
قال في المواقف:
" ................ المسلك الثاني هو العقل
والعمدة مسلك الوجود وهو طريقة الشيخ والقاضي وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها وهذا ظاهر.
ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض ..
فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود وانتفائها عند العدم
ولولا تحقق أمر حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح
وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة
وهو غير جائز ................. " انتهى كلامه من الشاملة.
فالله موجود إذن فهو مرئي .. هذا هو تعليلهم للرؤية .. وما هو مرئي- واقعا أو إمكانا- موجود .. وما لا يقبل الرؤية معدوم .. !!
لقد سبق الأشاعرة القس الإرلندي "باركلي" الذي أصل مبدأه المعروف: "وجود الشيء رهين بإدراكه" ... وجل الفلاسفة عرف عنهم التبرؤ من هذا المبدأ الخطير- مع الاعتراف بأنه لا يمكن دحضه مثل أخواته من شبهات السفسطائين التي بقيت عبر التاريخ من غير دحض، ولكن أعرضوا عنها مخافة الخراب-فمبدأ باركلي يفضي رغم كل شيء إلى مذهب الذات الواحدة .. وإنكار العالم الخارجي أن يكون مستقلا في الوجود .. بل هو أحاسيسي وتمثلاتي أي إدراكاتي فقط ...
هذا المذهب على سخافته متوسط بالمقارنة مع التطرف الأشعري .. فإذا كان باركلي يتكلم عن الإدراك فهو يعممه على سائر الحواس .. أما الأشاعرة فقد أرجعوا كل موجود إلى حاسة واحدة ..
فعند باركلي يكفيه أن يقال:هذا الصوت مسموع-يسمعه باركلي- إذن فهو موجود ..
أما الأشاعرة فلا يكفيهم ذلك بل يقولون: هذا صوت مسموع وهو موجود بشرط أن يكون مرئيا أو قابلا للرؤية .. فيكون الصوت المسموع الموجود مرئيا بالضرورة ..
مذهب باركلي سفسطة بسيطة، ومذهب الأشاعرة سفسطة مركبة!!
بل إن الكوجيتو المشهور عن ديكارت انتقد عليه فقد قيل إن استنباط أنه موجود من كونه يفكر ليس له مسوغ منطقي .. مع العلم أن فعل التفكير أعم من فعل الرؤية عند الأشعري ..
قال في المواقف بعد الكلام السابق:
" ............. واعلم أن هذا يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم ..
والشيخ يلتزمه ويقول لا يلزم من صحة الرؤية تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى لجريان العادة من الله بذلك .. ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها
والخصم يشدد عليه النكير .. وما هو إلا استبعاد
والحقائق لا تؤخذ من العادات .... "
وهو تعليل بارد بلاشك ... يستروح فيه الاشعري إلى مجرد الإمكان العقلي .. وقوله "ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها " يرد بقول مثله ... فلمن يفترض وقوع المحال –مثلا -أن يحتج على طريقة الاشعري أنه لا يمتنع أن يخلق الله فينا عقولا غير هذه بمقاييس غير المقاييس ...
إن التذرع بإمكان فعل الله تذرع للجميع وليس للأشعري خاصة!!
قد تقول وما الذي أوقع الأشاعرة في هذه الورطة؟
نقول: منهجهم في القطعيات والظنيات أرداهم!
كان من المتعين على الأشعري أن ينهي الجدال مع المعتزلة في مسألة" الرؤية"عند حدود النص .. لكنه أبى إلا أن يقحم فيها العقل باعتبار العقل صاحب قطعيات وليست النصوص كذلك ... فانفصل عن تشنيع ووقع في تشنيعات .. ورثّها أتباعه إلى اليوم!!
¥