إنهم يركزون الحملة على التراث الأصيل ويدعون إلى التراث الزائف الذي كتبه الشعوبيون والباطنية وخلفاء المجوس والهيلينة والغنوصية.
ومن حقنا أن نكشف أوراقهم ونفضح دخائلهم في مواجهة شاملة ترمي إلى تحديد الفوارق بين التراث الأصيل والتراث الزائف.
ركزت الحملة على التراث في محاولتين:
الأولى: تزييفه والتشكيك فيه أو اتهامه بالقصور والضعف والتخلف وعدم الحاجة إليه بحجة تخطي الزمن له وإثارة جو من الكراهية والاحتقار له بين أهله، في نفس الوقت الذي يُعْلَى فيه من شأن تراث الوثنية اليونانية والرومانية والفرعونية وتزيين تراث الغرب وإبرازه بصورة الريادة والبطولة.
الثاني: إحياء الجوانب الزائفة والمضطربة والفاسدة من التراث على النحو الذي عُرِفَ في تراث التصوف الفلسفي والفكر الباطني، ولقد ركز الاستشراق على الجوانب المضطربة وجعلها في الصدارة؛ فقد عمد إلى إحياء التراث الفلسفي اليوناني الذي ترجم في القرنين الثاني والثالث بعد أن فقده المسلمون وكشفوا زيفه وأعلنوا براءة الفكر الإسلامي المستمد من التوحيد الخالص منه، فأعادوه مرة أخرى وركزوا على مجموعة من الكتابات التراثية المسمومة، فأذاعوا بها وجعلوها مصادر للأبحاث والأطروحات وعلى رأسها ألف ليلة وليلة والأغاني وكتابات ابن عربي وابن سبعين والحلاج في التصوف الفلسفي وما كتبه الفارابي وابن سينا في الفلسفة.
وهكذا نجد أن الباحثين العصريين التغريبيين للتراث اليوم يولون وجوههم شطر هذه الجوانب المضيئة. ويُحبونها، ويهتمّون بها ويوجهون الباحثين إلى إحيائها. ومن هنا كانت أطروحات الماركسيين حول المزدكية والبابكية والقرامطة والزنج وغيرهم من الفرق الباطنية تحت اسم أصحاب العدل والحرية.
ولم يتوقف أمر الباحثين في التراث عند هذا الحد بل هم يذهبون إلى تدمير مقومات ودعائم تفسير القرآن الكريم فيهاجمون الشعر الجاهلي ويدعون أنه منتحل؛ وذلك لأنه قاعدة فهم اللغة العربية التي جاء القرآن مطابقًا لها. وقد توسع البعض في هذا فدعا إلى هدم مناهج اللغة وخاصة البلاغة واستقطاب مناهج اللغات دون تقدير للفوارق العميقة بين اللغات التي نشأت حديثًا من عاميات اللاتينية واليونانية وذلك على النحو الذي احتضنه الشيخ أمين الخولي.
ولعل أخطر ما يحاول الاستشراق والغزو الفكري استغلاله في هدم اللغة العربية ما ذهب إليه في دعوى الحداثة ومايتصل بها من نظرية البنيوية وغيرها من النظريات التي ترمي إلى القضاء على الجذور والثوابت للغة العربية في محاولة لهدم قوانين النظم العربي، وذلك بالدعوة إلى أساليب مدمَّرة تستوحي آثار الفلسفة اليونانية القديمة في شعر ذلك العصر بشار وأبونواس وغيرهم في محاولة لإحياء الفكر الباطني والقضاء على التيار الأصيل: تيار أهل السنة والجماعة.
وهكذا يصيب التغريب اللغة والتاريخ وتفسير القرآن من خلال دعوى عريضة هي أن كل علوم العربية تأثرت بالفكر اليوناني واعتمدت عليه، وهي دعوى باطلة مذمومة؛ فقد نشأت هذه العلوم وتشكلت أساسًا قبل ترجمة الفلسفة اليونانية على أرجح الأقوال، وأن الفكر اليوناني حين تُرجِمَ استهجنه المسلمون وقاوموه وكشفوا زيفه. وكان الإمامين الغزالي وابن تيمية في مقدمة هؤلاء الذين بينوا الفوارق العميقة بينه وبين المفهوم الإسلامي القائم على التوحيد الخالص، كما بين الامام ابن تيمية أن للقرآن منطقًا مختلفًا عن منطق أرسطو والفكر اليوناني القائم على علم الأصنام، وعلى مفهوم عبودية الإنسان للإنسان، واعتماد الرق أساسًا ركينًا لكل حضارة وهو ما هدمه الإسلام وقال فيه الربعي بن عامر:
(جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار).
كذلك في أمر التصوف الفلسفي فقد كشف أهل السنة والجماعة أن هذه المصطلحات التي نقلها ابن عربي والحلاج وابن سبعين والسهروردي وغيرهم من الفكر اليوناني ومن الأفلوطينه والإشراقية لايقرها الإسلام ولايعترف بها.
ومن هنا فإن إعادة البحث عنها على أنها جزء من التراث الإسلامي وإحيائها هي محاولة مضللة يجب الكشف عنها.
أما التراث الفلسفي فهو جزء من التراث الزائف جملة وتفصيلاً، فإن المسلمين لم يعتبروه من أساس فكرهم، وقد وضح أن الفلسفة الإسلامية الحقة قد بدأت بكتاب [الرسالة] للإمام الشافعي والذي قعد القواعد للفكر الإسلامي.
¥