تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ، قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ

فَإِنْ قِيلَ إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ؟

فَالْجَوَاب أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ. كَأَنْ يُقَالَ لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ.

ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ اِحْتِمَال أَنْ يَكُون مَعْنَى التَّرَدُّد اللُّطْف بِهِ كَأَنَّ الْمَلَك يُؤَخِّر الْقَبْض، فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَم الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا اِحْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ اِمْتِثَالِهِ.

وَجَوَابًا رَابِعًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِب وَلَده تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ، بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيق الْمَحَبَّة لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّد.

وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ اِحْتِمَالًا آخَر وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ يَقْبِض رُوح الْمُؤْمِن بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً."وقال المناوي رحمه الله:

" (وما تردّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن) أي ما أخرت وما توفقت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن، أتوقفُ عليه حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقاً إلى انخراطه في سلك المقربين والتبوىء في أعلا عليين، أو أراد بلفظ التردد إزالة كراهة الموت عن المؤمن بما يبتلي به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عما تشبث به من حبِّ الحياة شيئاً فشيئاً بالأسباب المذكورة يشبه فعل المتردد فعبر به عنه "وقال ابن رجب رحمه الله:

" المرادُ بهذا أنَّ الله تعالى قضى على عباده بالموت، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185)، والموتُ: هو مفارقةُ الروح للجسد، ولا يحصلُ ذلك إلا بألمٍ عظيمٍ جداً، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا، قال عمر لِكعبٍ: أخبرني عن الموت، قال يا أميرَ المؤمنين، هو مثلُ شجرةٍ كثيرةِ الشَّوك في جوف ابنِ آدم، فليس منه عِرقٌ ولا مَفْصِل إلا ورجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينْزعها، فبكى عمر.

ولما احتضر عمرو بنُ العاص سأله ابنُه عن صفة الموت، فقال: " كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة، وَكَأَنَّ غُصْن شَوْك يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي "

وقيل لرجل عندَ الموت: كيف تجدُك؟ فقال: أجدني أُجتذب اجتذاباً، وكأنَّ الخناجرَ مختلفة في جوفي، وكأنَّ جوفي تنُّور محمىًّ يلتهِبُ توقداً.

وقيل لآخر: كيف تَجِدُكَ؟ قال: أجدني كأنَّ السماوات منطبقةٌ على الأرض عليَّ، وأجد نفسي كأنَّها تخرجُ من ثقب إبرة.

فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ، والله تعالى قد حتمه على عباده كلِّهم، ولابدَّ لهم منه، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته، سمَّى تردُّداً في حقِّ المؤمن، فأمَّا الأنبياءُ عليهم السلام، فلا يُقبضون حتَّى يُخيَّروا.

قال الحسن: لمّا كرهت الأنبياءُ الموتَ، هوَّن الله عليهم بلقاء الله، وبكلِّ ما أحبوا من تحفةٍ أو كرامة حتّى إنَّ نَفْسَ أحدهم تُنْزَعُ من بين جنبيه وهو يُحِبُّ ذلك لما قد مُثِّلَ له.

في موضع اخر

جواب اشكال التردد من وجهين

أحدهُما أنْ يكونَ التردُّدُ للملائكةِ الذين يقبضونَ الأرواحَ، فأضافَهُ الحقُّ عزَّ وجلَّ إلى نفسِه لأنَّ ترددَهُم عن أمرهِ كما قالَ تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64) سورة مريم،وتردُّدُ الملائكةِ إنما يكونُ لإظهارِ كرامةِ الآدميِّ كما تردَّدَ ملكُ الموتِ إلى آدمَ وإبراهيمَ وموسى ونبيِّنا {صلَّى اللهُ عليه وسلَّم}.

فأمَّا أنْ يكونَ الترددُ للهِ فمحالٌ في حقِّهِ،وهذا مذهبُ الخطابيِّ، فإنِ اعتُرِضَ على هذا، فقيل: متَى أُمِرَ الملَكُ بقبضِ الرُّوحِ لم يجزْ لهُ الترددُ، فكيفَ يترددُ؟

فالجوابُ منْ وجهينِ:

أحدهُما أن يكونَ إنما ترددَ فيما لم يجزَمْ لهُ فيه على وقتٍ، كما روي ((أنه لما بعث ملك الموت إلى الخليل قيل له تلطف بعبدي).

والثاني أن يكون ترددَ رقَّةٍ ولطفٍ بالمؤمنِ، لا أنهُ يؤخرُ القبضَ، فإنه إذا نظرَ إلى قدْرِ المؤمنِ منِ احترمَهُ فلم تنبسطْ يدهُ لقبضِ روحِه،وإذا ذكرَ أمرَ الإلهِ لم يكنْ لهُ بدٌّ في امتثالهِ.

والثاني أنه خطابٌ لنا بما نعقلُ وقدْ تنزهَ الربُّ عزَّ وجلَّ عن حقيقتهِ كما قال: ((وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))

فكما أنَّ أحدَنا يترددُ في ضربِ ولدهِ فيأمرهُ التأديبُ بضربهِ وتمنعُه المحبَّةُ، فإذا أخبرَ بالترددِ فهمْنا قوةَ محبتِه لهُ بخلافِ عبدهِ، فإنه لا يترددُ في ضربهِ، فأريدَ تفهيمُنا تحقيقَ المحبَّة للوليِّ بذكرِ الترددِ، ومنَ الجائزِ أنْ يكونَ تركيبُ الوليِّ يحتملُ خمسينَ سنةً،فيدعو عندَ المرضِ فيعافَى ويقوَى تركيبُه فيعيشُ عشرينَ أخرَى، فتغييرُ التركيبِ والمكتوبِ منَ الأجلِ كالترددِ، وذلك ثمرةُ المحبَّةِ."

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير