(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
ورأيت طائفة من الناس ليسوا بعلمانيين ولا شهوانيين، ولكن غالب وقتهم هو التهكم وانتقاص العاملين للإسلام، فيحصون النقير والقطمير على العاملين للإسلام ويشنعون عليهم بأقل أخطائهم، ولايبصرون الأفاعي في عيون العلمانيين والشهوانيين، بل تجدهم في مجالسهم في غاية اللطف واللين معهم، فكنت أتعجب ممن يمضي عمره في الرقابة على المصلحين وهو لم يقدم شيئاً، ويتلطف للعلمانيين ومروجي الشهوات، وكنت أظن انتقاص جهود العاملين للاسلام سلوك معاصر حتى قرأت قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)
بل إن بعض الأخيار في أنفسهم يجادل عن العلمانيين، ويبرر لهم، ويبحث عن التسويغات لأقوالهم، بحجة طلب هدايتهم، في الوقت الذي يتشنج فيه ضد أخطاء المحتسبين .. فكنت أظن افتراق المؤمنين في الموقف من المفسدين إنما هو شأن جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)
ورأيت آخرين يشاركون في العمل الإسلامي والأنشطة الدعوية، ولكنه شديد التذمر والشكاية، وإذا تأملت محل تذمره ومحل رضاه؛ اكتشفت أنه ليس مبنياً على أساس عقدي رسالي، بل هو مبني على "حظ النفس"، فإذا كان التصرف الدعوي يراعي حظوظه الشخصية رأيته متبنياًً مدافعاًً، وإذا كان التصرف الدعوي ليس له فيه حظ ولاتشريف رأيت نياحته لاتنتهي .. فكنت أظن هذا الانتماء الدعوي المشروط على أساس حظ النفس إنما هو شئ جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)
وتجد بعض الناس لم يستطع أن يحسم خياراته وسط معركة العقيدة والشريعة والفضيلة هذه .. بل هو يحب أن يكسب العلمانيين ويحب أن يكسب العاملين للإسلام .. ولايحب أن يكون في أحد الكفتين .. وهو صادق في محبته لكلا الطرفين .. فكنت أتعجب من هذه الشريحة التي لم تحسم خياراتها بعد .. وأتساءل عن موقف العاملين للإسلام منها .. حتى قرأت قوله تعالى:
(سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا)
وكنت ألاحظ أن بعض الأخيار يرخي أذنه إلى هؤلاء المحرفين ويستمع لهم، لكن استماعه مع الوقت يتحول من استماع فضول إلى استماع تأثر .. فتتشوش الأمور عنده وتهتز قناعاته .. فيطوح به ذلك الاستماع إلى غيوم الفتنة .. كما قال تعالى:
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)
وكثير من الأخيار يبقى يتلظى بنيران الحيرة، فلا هو استطاع أن يحسم خياراته .. ولا هو استطاع أن يوقف سيل التساؤلات .. ويصبح انتماؤه كغصن عذبته تقلبات الرياح .. فلاهو استلقى على أحد جانبيه .. ولا هو انكسر فاستراح .. ومن جرب عذابات الحيرة والشكوك والارتيابات عرف أنها أكثر ألماً من الضلال ذاته .. ولذلك قال تعالى:
(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)
حين رأيت هذه الأمثلة السابقة كلها.
وغيرها كثير كثير .. لايمكن الإطالة بذكره ..
علمت بالضبط ماذا يعني أن القرآن تبيان لكل شئ ..
حينها وحينها فقط .. أدركت شيئاً من أسرار قوله تعالى:
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ..
أمثال مضروبة في القرآن فيها الإجابة عن كل شئ في حياتك .. من شعائرك ومعاملاتك إلى دقائق الصراعات الفكرية والسياسية ..
دع عنك المظاهر والرسوم .. ورفرف بين أمثلة القرآن .. وتأمل المعنى المشترك بين (المثل القرآني) و (الصورة المعاصرة) وستنكشف لك سجف الحقائق ..
صدق القائل سبحانه:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
من كل مثل .. من كل مثل ..