وأما السلف وجمهورُ المسلمين من جميعِ الطوائف فإنهم طردُوا أصلَهُم وقالوا: بل الأفعالُ تقومُ به كما تقومُ به الصفات، والخلقُ ليس هو المخلوق وذكر البخاريُّ أن هذا إجماعَ العلماء.
ومن قال: الصفاتُ تنقسم إلى صفاتٍ ذاتيَّةٍ وفعليَّةٍ ولم يجعلِ الأفعالَ تقوم به؛ فكلامُه فيه تلبيسٌ، فإنه سبحانه لا يُوصَفُ بشيءٍ لا يقومُ به، وإن سُلِّمَ أنه يتصف بما لا يقوم به فهذا هو أصل الجهمية الذين يصفونه بمخلوقاتِه ويقولون: إنه متكلِّمٌ ومريدٌ وراضٍ وغضبانُ ومحبٌّ ومبغضٌ وراحم لمخلوقات يخلقها منفصلةً عنه لا بأمورٍ تقومُ بذاته " (11).
وقال: " وَالْمُعْتَزِلَةُ اسْتَطَالُوا عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَنَقَضُوا بِذَلِكَ أَصْلَهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ إذَا خُلِقَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ " (12).
وقال في موضع آخر: " وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي ضَعْضَعَ هَذِهِ الْحُجَّةَ عِنْدَ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِمَا أَلْزَمهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْهَا أَبُو الْمَعَالِي " (13).
قلت: ولذلك استخفَّ الفخرُ الرازيُّ بهذه الحُجَّةِ (14)، وجعل البحثَ بحثاً لغوياً يليقُ بالأدباء لا بحثاً عقلياً.
وقد تقدَّم من كلام ابن تيمية بيان أنه بحث عقليٌّ في جانب، لغوي في جانبٍ بما يكفِي ويشفِي.
الموضع الثاني: في قولِ من قال منهم بأن الكلامَ يكونُ حقيقة في الكلام النفسي واللفظيِّ، مع قولِهم بخلق الكلام اللفظي، بيانُ ذلك أن يُقال: هل القرآن العربي المؤلف من حروف وكلمات وسور وآيات كلام الله عندكم حقيقة؟!
فمن قال بأن لفظ (الكلام) مشتركٌ بين الكلام النفسي واللفظي كأبي المعالي (15)، فلا بد له من نعم.
فيقال لكم: وهل هذا القرآن العربي عندكم مخلوقٌ؟
ولا بُدَّ من نعم، وعلى هذا نصَّ أئمَّتُهم.
فيُحتجُّ عليهم بالحجة نفسها، فيقال: هل خلقه الله في نفسه، أم خلقه لا في محل، أم خلقه قائماً بغيره. فتختارون: أنه خلقه في غيره.
فمنكم من يقول: خلقه في اللوح المحفوظ، أو في جبريل أو في محمد صلى الله عليه وسلم (16)!.
فيلزمكم أنه كلام ذلك المخلوق الذي خلقه فيه، وعندها تكونون قد نقضتم أصلَكُم، إذ قد قررتم أنَّ الكلامَ لو خلقَهُ الله في غيرِه لكان ذلكَ الغيرُ إلهاً آمراً ناهياً!!
قال ابن تيمية: " وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْكَلَامِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ حُجَّتَهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، لَكِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ إطْلَاقَ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَعَلَى الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَعَلِمَ مُتَأَخِّرُوهُمْ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً، فَجَعَلُوهُ مُشْتَرَكًا، فَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا.
فَهُمْ بَيْنَ مَحْذُورَيْنِ: إمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَإِمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ " (17).
_______
(1) تاريخ بغداد (9/ 31)، وذكر هذه العبارة الذهبي في السير (10/ 625) بهذا اللفظ، وذكرها ابن تيمية في المجموع (6/ 317) بلفظ: " مَا خَلَّفْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ "، وقال ابن تيمية في العقل والنقل (2/ 253) في وصفه: " أحدُ أئمَّةِ الإسلام نظيرُ الشافعي وأحمدَ وإسحاق وأبي عبيد وأبي بكر بن أبي شيبة وأمثالِهم ".
(2) خلق أفعال العباد (2/ 35).
¥