وحَكَى لنا الأستاذُ أبو القاسمِ الحسنُ بنُ محمَّدِ بنِ الحسنِ بنِ جَعفرٍ الْحُنَيْنِيُّ عن أبي الهيثمِ الشَّجَرِيِّ: أنه حكى عن بعضِهم: أنه كان يُثْبِتُ الوَسواسَ مِنَ الناسِ مِنَ الإنسانِ للإنسانِ كالوَسوسةِ مِنَ الشيطانِ؛ فيَجعلُ الوَسواسَ مِن فعْلِ الْجِنَّةِ والناسِ، ويَحتَجُّ بخَبَرِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنه قالَ لرَجُلٍ: هل تَعَوَّذْتَ باللهِ مِنْ شياطينِ الإنسِ لقولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}.
والاختيارُ أنْ يكونَ الناسُ عَطْفًا على الوَسواسِ، والمعنى: مِن شَرِّ الوَسواسِ الذي هو مِنَ الْجِنِّ ومِن شَرِّ الناسِ). [الكشف والبيان: 10/ 341]
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاحِدِيُّ (ت: 468هـ): (ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشَّيْطَانَ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {مِنَ الْجِنَّةِ}: أَيِ: الشَّيْطَانِ الَّذِي هو مِنَ الْجِنِّ، {وَالنَّاسِ}: عَطْفٌ على قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ}، والمَعْنَى: مِنْ شَرِّ ذِي الْوَسْوَاسِ، ومِنْ شَرِّ النَّاسِ، كَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَعِيذَهُ مِنْ شَرِّ الجِنِّ، ومِن شَرِّ النَّاسِ). [الوسيط: 4/ 575]
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاحِدِيُّ (ت: 468هـ): (وَعَطَفَ قَوْلَهُ: {وَالنَّاسِ} عَلَى الوَسْوَاسِ. الْمَعْنَى: مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ، كَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالإِنْسِ). [الوسيط: 4/ 575]
قالَ الْحُسَيْنُ بنُ مَسْعُودٍ البَغَوِيُّ (ت: 516هـ): (وقولُه: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} أرادَ بالناسِ: ما ذُكِرَ مِن بعدُ، وهو الجِنَّةُ والناسُ، فسَمَّى الجِنَّ ناسًا، كما سَمَّاهم رِجَالاً، فقالَ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: 6].
وقد ذُكِرَ عن بعضِ العَرَبِ أنه قالَ وهو يُحَدِّثُ: جاءَ قومٌ من الْجِنِّ فوَقَعُوا، فقيلَ: من أنتم؟ قالُوا: أُناسٌ من الْجِنِّ. وهذا معنى قولِ الفَرَّاءِ.
قالَ بعضُهم: أَثْبَتَ أنَّ الوَسواسَ للإنسانِ من الإنسانِ كالوَسوسةِ للشيطانِ، فجَعَلَ " الوَسواسَ" من فِعْلِ الْجِنَّةِ والناسِ جميعًا، كما قالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] كأنه أَمَرَ أن يَستعيذَ من شَرِّ الجِنِّ والإنْسِ جميعًا). [معالم التنزيل: 727 - 728]
قَالَ قِوَامُ السُّنَّةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ (ت: 535هـ) (فيما نُسِبَ إليه): (وقَالَ الْفَرَّاءُ: {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّاسِ} {النَّاسِ} وَقَعَتْ هَاهُنَا على الجِنِّ والإنْسِ، كقَوْلِكَ: يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ جِنِّهِم وإِنْسِهِم، وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ قَالَ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الجِنِّ فقِيلَ: مَنْ أَنْتَم؟ فقَالُوا: أُنَاسٌ مِنَ الجِنِّ، والقَوْلُ الأَوَّلُ أَوْجَهُ.
قِيلَ: أَمَرَ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّ الإنْسِ والجِنِّ). [إعراب القرآن: 566]
قالَ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ (ت: 538هـ): ({مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بَيَانٌ للذي يُوَسْوِسُ، على أنَّ الشيطانَ ضَرْبَانِ: جِنِّيٌّ وإِنْسِيٌّ؛ كما قالَ: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قالَ لرجُلٍ: هل تَعَوَّذْتَ باللَّهِ مِن شيطانِ الإنسِ؟
ويجوزُ أنْ يكونَ {مِنَ} مُتَعَلِّقاً بـ {يُوَسْوِسُ}، ومعناه: ابْتِدَاءُ الغايةِ؛ أي: يُوَسْوِسُ في صُدُورِهم مِن جِهَةِ الجِنِّ ومِن جِهَةِ الناسِ.
وقِيلَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ للناسِ، وأنَّ اسمَ الناسِ ينطلق على الجِنَّةِ، واسْتَدَلُّوا بـ {نَفَرٌ} و {رِجَالٌ} في سورةِ الجِنِّ.
وما أُحِقُّه لأنَّ الجنَّ سُمُّوا جِنًّا لاجْتِنَانِهِم، والناسَ ناساً لظُهُورِهم، مِن الإِيناسِ، وهو الإبصارُ، كما سُمُّوا بَشَراً، ولو كانَ يَقَعُ الناسُ على القَبِيلَيْنِ، وصَحَّ ذلك وثَبَتَ ـ لم يَكُنْ مناسِباً؛ لفَصاحةِ القرآنِ وبُعْدِهِ مِنَ التصَنُّعِ.
¥