وأَجْوَدُ مِنه أنْ يُرَادَ بالناسِ: الناسِي؛ كقولِه: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، وكما قُرِئَ: (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِ) [البقرة: 199]. ثُمَّ يُبَيَّنُ بالجِنَّةِ والناسِ؛ لأنَّ الثَّقَلَيْنِ هما النوعانِ الموصوفانِ بنِسْيَانِ حقِّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ). [الكشاف: 6/ 469] (م)
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بنِ الحُسَيْنِ الرَّازِيُّ (ت: 604هـ): (أَمَّا قَوْلُه تَعالَى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ففيه وُجُوهٌ:
أَحَدُها: كأَنَّه يَقُولُ: الوَسْوَاسُ الخَنَّاسُ قَدْ يَكُونُ مِن الجِنَّةِ وقَدْ يَكُونُ مِن النَّاسِ كَمَا قَالَ: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ والْجِنِّ} [الأنعام: 112] وكَمَا أَنَّ شَيْطانَ الجنِّ قَدْ يُوَسْوِسُ تَارَةً ويَخْنِسُ أُخْرَى، فشَيْطَانُ الإنسِ يكونُ كذلك؛ وذلك لأنَّه يَرَى نَفْسَه كالنَّاصِحِ المُشْفِقِ، فإِنْ زَجَرَه السامِعُ يَخْنِسُ ويَتْرُكُ الوَسْوَسَةَ، وإِنْ قَبِلَ السَّامِعُ كَلامَه بالَغَ فيه.
وثانيها: قالَ قومٌ: قولُه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قِسْمَانِ مُنْدَرِجانِ تَحْتَ قَوْلِه: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} كأَنَّ القَدْرَ المُشْتَرَكَ بَيْنَ الجنِّ والإنسِ يُسَمَّى إنسانًا، والإنسانُ أيضًا يُسَمَّى إنسانًا فيكونُ لَفْظُ الإنسانِ وَاقعًا على الجِنْسِ والنوعِ بالاشْتِراكِ، والدَّليلُ علَى أَنَّ لَفْظَ الإنسانِ يَنْدَرِجُ فيه الجنُّ والإنسُ ما رُوِيَ أَنَّه جَاءَ نَفَرٌ مِن الجنِّ فقِيلَ لَهُم: مَن أَنْتُم؟ فقالُوا: أُنَاسٌ مِن الجنِّ، وأيضًا قد سَمَّاهُم اللَّهُ رِجَالاً في قولِه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فجَازَ أيضًا أَنْ يُسَمِّيَهم ههنا نَاسًا.
فمَعْنَى الآيةِ علَى هذا التَّقْديرِ أَنَّ هذا الوَسْوَاسَ الخَنَّاسَ شَدِيدُ الخَنْسِ لا يَقْتَصِرُ علَى إِضْلالِ الإنسِ، بل يُضِلُّ جِنْسَه وهم الجنُّ، فجَدِيرٌ أَنْ يَحْذَرَ العَاقِلُ شَرَّه.
وهذا القولُ ضَعِيفٌ؛ لأنَّ جَعْلَ الإنسانِ اسْمًا للجِنْسِ الذي يَنْدَرِجُ فيه الجنُّ والإنسُ بَعِيدٌ مِن اللُّغَةِ؛ لأَنَّ الجنَّ سُمُّوا جِنًّا لاجْتِنَانِهِم، والإنسانُ إنسانًا لظُهُورِه مِن الإيناسِ وهو الإبْصَارُ.
وقالَ صَاحِبُ الكَشَّافِ: مَن أَرَادَ تَقْرِيرَ هذا الوَجْهِ فالأَوْلَى أَنْ يَقُولَ المُرَادُ مِن قولِه: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي: فِي صُدُورِ النَّاسِي كقَوْلِه: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] وإِذَا كَانَ المَارِدُ مِن النَّاسِ النَّاسِيَ، فحِينَئذٍ يُمْكِنُ تَقْسِيمُه إلى الجنِّ والإنسِ؛ لأنَّهما هما النَّوعانِ المَوْصُوفانِ بنِسْيانِ حَقِّ اللَّهِ تعالَى، وثالِثُها: أَنْ يَكُونَ المُرَادُ أَعُوذُ برَبِّ النَّاسِ مِن الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ومِن الجِنَّةِ والناسِ كأَنَّه اسْتَعَاذَ برَبِّه مِن ذلك الشَّيْطَانِ الوَاحِدِ، ثُمَّ اسْتَعاذَ برَبِّه مِن الجَمِيعِ الجِنَّةِ والنَّاسِ). [التفسير الكبير: 32/ 182]
قَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ السُّلَمِيُّ (ت: 660هـ): (واخْتُلِفَ هَلِ النَّاسُ بإِزَاءِ الجِنِّ لكِنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ في أَحَدِ مُسَمَّيَاتِهِ، ولأَجْلِ الغَلَبَةِ أُفْرِدَ بالذِّكْرِ في السُّورَةِ، أو هو مَخْصُوصٌ بمَنْ غَلَبَ فيه اللَّفْظُ؟). [فوائد في مشكل القرآن:263]
قالَ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ الرَّازِيُّ (ت: 666هـ): (فإنْ قيلَ: هل قولُه تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ للذي يُوَسْوِسُ على أنَّ الشيطانَ المُوَسْوِسَ ضَرْبانِ: جِنِّيٌ وإنسيٌّ كما قالَ تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}، أو بيانٌ للناسِ الذي أُضِيفَتْ الوسوسةُ إلى صُدُورِهِم، والناسُ المذكورُ آخِرًا بمعنى الإنسِ؟
قلنا: قالَ بعضُ أَئِمَّةِ التفسيرِ: المرادُ المعنى الأوَّلُ، كأنه قالَ: مِن شرِّ الوَسْوَاسِ الجِنِّيِّ، ومن شرِّ الوَسْوَاسِ الإِنْسِيِّ، فهو استعاذةٌ باللهِ تعالَى من شرِّ المُوَسْوِسِينَ مِنَ الجِنْسَيْنِ، وهو اختيارُ الزَّجَّاجِ، وفي هذا الوجهِ إطلاقُ لفظِ الخنَّاسِ على الإنسيِّ، والنقلُ أنه اسمٌ للجِنِّيِّ.
¥