قيلَ: بل الوَسوسةُ نَوْعَانِ: نوعٌ مِن الْجِنِّ، ونَوعٌ مِنْ نُفوسِ الإنْسِ، كما قالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، فالشرُّ مِن الْجِهتَيْنِ جَمِيعاً، والإنْسُ لهم شياطينُ كما للجِنِّ شياطينُ.
وقالَ أيضاً: الذي يُوسوسُ في صُدورِ الناسِ نفْسُهُ لنَفْسِهِ، وشياطينُ الجنِّ وشياطينُ الإنْسِ، فليسَ مِنْ شَرْطِ الْمُوَسْوِسِ أنْ يكونَ مُسْتَتِراً عن البَصَرِ، بلْ قدْ يُشَاهَدُ). [محاسن التأويل: 9/ 580]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُصْطَفَى المَرَاغِيُّ (ت: 1371هـ): (وَقَدْ وَصَفَ اللهُ هَذَا الْوَسْوَاسَ الخَنَّاسَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أَيْ إنَّ هَذَا الوَسْوَاسَ الخَنَّاسَ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ البَشَرِ، قد يَكُونُ مِنَ الجِنَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، كما جاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فَشَيْطَانُ الجِنِّ قَد يُوَسْوِسُ تَارَةً وَيَخْنَسُ أُخْرَى، وشَيْطَانُ الإنْسِ كذلك، فَكَثِيرًا ما يُرِيكَ أنه نَاصِحٌ شَفِيقٌ، فإذا زَجَرْتَهُ خَنَسَ وَتَرَكَ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ، وَإِذَا أَصْغَيْتَ إِلَى كَلامِهِ اسْتَرْسَلَ واسْتَمَرَّ فِي حَدِيثِهِ وبَالَغَ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ أنه قَالَ: ((إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم تَعْمَلْ أو تَتَكَّلَمْ بِهِ)) رَوَاهُ أبُو هُرَيْرَةَ وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ). [تفسير المراغي: 30/ 271]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُصْطَفَى المَرَاغِيُّ (ت: 1371هـ): (قَالَ الأسْتَاذُ الإمَامُ: الْمُوَسْوِسُونَ قِسْمَانِ:
(1) قِسْمُ الجِنَّةِ، وَهُم الخَلْقُ المُسْتَتِرُونَ الَّذِينَ لا نَعْرِفُهُمْ، وإنما نَجِدُ فِي أنْفُسِنَا أَثَرًا يُنْسَبُ إِلَيْهِم، ولِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ شَيْطَانٌ، وَهِيَ قُوَّةٌ نَازِعَةٌ إِلَى الشَّرِّ ويَحْدُثُ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرُ السُّوءِ.
(2) قِسْمُ النَّاسِ، وَوَسْوَسَتُهُمْ ما نُشَاهِدُهُ وَنَرَاهُ بأَعْيُنِنَا، ونَسْمَعُهُ بآذَانِنَا.
وما أَوْرَدُوهُ فِي خُرْطُومِ الشَّيْطَانِ وَخَطْمِهِ وَمِنْقَارِهِ وَجُثُومِهِ عَلَى الصَّدْرِ أو عَلَى القَلْبِ ونَحْوِ ذلك -فَهُوَ مِن قَبِيلِ التَّمْثِيلِ والتَّصْوِيرِ. اهـ مُلَخَّصًا). [تفسير المراغي: 30/ 271 - 272]
قالَ عَطِيَّةُ مُحَمَّد سَالِم (ت: 1420هـ): (وفي لفْظِ الناسِ هنا الْمُضافِ إليه الصدورُ اختلافٌ في الْمُرادِ منه؛ فقِيلَ: الإنْسُ الظاهِرُ الاستعمالِ.
وقيلَ: الثَّقَلانِ؛ الإنْسُ والجِنُّ.
وأنَّ إطلاقَ الناسِ على الْجِنْسِ مَسموعٌ كما حَكَاهُ القُرطبيُّ، قالَ عن بعْضِ العرَبِ: إنَّه كانَ يُحَدِّثُ فجاءَ قومٌ مِن الْجِنِّ فوَقَفُوا فقِيلَ: مَن أنتم؟ فقالوا: ناسٌ مِن الْجِنِّ. وهذا مَعْنَى قولِ الْفَرَّاءِ.
واسْتَدَلَّ صاحِبُ هذا القولِ بطَريقِ القِياسِ باستعمالٍ لفْظِيٍّ: رجالٌ ونَفَرٌ في قَوْلِه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، وقولِه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29].
وعليه يكونُ الوَسْوَاسُ الْمُستعاذُ منه يُوَسْوِسُ في صُدورِ الْجِنِّ والإِنْسِ.
وقد ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ هذا الوَجْهَ: ولكنَّه رَدَّهُ وضَعَّفَه؛ لأنَّ لفْظَ الناسِ أظْهَرُ وأَشْهَرُ في الإِنْسِ، وهو المعروفُ في استعمالِ القرآنِ، ولأنه على هذا يكونُ قَسيمُ الشيءِ قِسْماً منه؛ لأنه يَجْعَلُ الناسَ قَسِيمَ الْجِنِّ ويَجْعَلُ الْجِنَّ نَوْعاً مِن الناسِ. اهـ ملَخَّصاً.
¥