تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وعلى كُلٍّ فإنَّ مَنْهَجَ الأضواءِ أنَّ ما كانَ مُحْتَمَلاً، وكانَ أكثَرُ استعمالاتِ القرآنِ لأحَدِ الاحتمالينِ؛ فإنَّ كَثرةَ استعمالِه إيَّاهُ تَكونُ مُرَجِّحاً، وجَميعُ استعمالاتِ القرآنِ للفْظِ (الناسِ) إِنَّما هو في خُصوصِ الإنْسِ فقَطْ، ولم تُسْتَعْمَلْ ولا مَرَّةً واحدةً في حَقِّ الْجِنِّ معَ مُراعاةِ استعمالِها في هذه السُّورَةِ وَحْدَها خَمْسَ مَرَّاتٍ، حتَّى سُمِّيَتْ سُورَةَ الناسِ.

أمَّا القِياسُ على لَفْظَتَيْ رَجُلٍ ونَفَرٍ، فقَدْ رَدَّهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضاً بأنَّهما وَرَدَا مُقَيَّدَيْنِ: {رِجَالٌ مِنَ الْجِنِّ}، {نَفَراً مِنَ الْجِنِّ}.

أمَّا على الإطلاقِ فلم يَرِدَا، وهكذا لفْظُ الناسِ فلا مانِعَ مِن استعمالِه مُقَيَّداً: نَاسٌ مِن الجِنِّ، أمَّا على الإطلاقِ فلا.

وعليه فحيثُ وَرَدَ لفْظُ الناسِ هنا مُطْلَقاً فلا يَصِحُّ حَمْلُه على الجِنِّ والإنْسِ معاً، بل يكونُ خاصًّا بالإنْسِ فقط، ويكونُ في صُدورِ الناسِ؛ أيْ: في صُدُورِ الإِنْسِ.

وقد ذَكَرَ أبو السُّعودِ مَعْنًى آخَرَ في لفْظِ النَّاسِ، وهو أنَّ الناسِيَ من النِّسيانِ، حُذِفَتِ الياءُ تَخفيفاً؛ لأنَّ الوَسواسَ لا يُوَسْوِسُ إلاَّ في حِينِ النِّسيانِ والغَفْلَةِ.

وعليه يكونُ حَذْفُ الياءِ كحَذْفِها مِن "الداعِ" في قولِه: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] ونحوِه.

ولكنْ يَبْقَى على هذا القولِ بيانُ مَن الْمُرادُ بالناسي، أهُوَ مِن الإِنْسِ أمْ مِن الْجِنِّ؟ فلم يَخْرُجْ عن الاحتماليْنِ السابقيْنِ، معَ أنَّ هذا القولَ مِن لَوازِمِ معنَى الوَسواسِ الْخَنَّاسِ.

ويَرد على هذا القولِ: جَمْعُ الصُّدورِ وإفرادُ الناسِ، والْجَمْعُ لا يُضافُ إلاَّ إلى جَمْعٍ؛ أي: جَمْعِ الصدورِ؛ لأنَّ الفرْدَ ليسَ له جَمْعٌ مِن الصدورِ، فيُقَابِلُ الجمْعَ بجَمْعٍ، أو يَكْتَفِي لِلْمُفْرَدِ بِمُفْرَدٍ.

وقد جاءَ في إضافةِ الْجَمْعِ إلى الْمُثَنَّى في قولِه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].

قالَ أبو حَيَّانَ وحَسَّنَه: إنَّ الْمُثَنَّى جَمْعٌ في المعنَى، والْجَمْعُ في مِثْلِ هذا أَكْثَرُ استعمالاً مِن الْمُثَنَّى والتثنيةِ دُونَ الْجَمْعِ.

كما قالَ الشاعِرُ:

فتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوَافِذٍ = كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ

وهذا كانَ القِياسَ؛ وذلك أنَّ الْمُعَبَّرَ عن الْمُثَنَّى بِالْمُثَنَّى، لكِنْ كَرِهُوا اجتماعَ تَثْنِيَتَيْنِ، فعَدَلُوا إلى الْجَمْعِ بأنَّ التثنيةَ جَمْعٌ في المعنَى، والإفرادُ لا يَجوزُ عندَ أصحابِنا إلاَّ في الشِّعْرِ.

كقولِه: * حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي *

يُريدُ "بَطْنَي"، وغَلِطَ ابنُ مالِكٍ في التسهيلِ؛ إذ قالَ: ونَختارُ الإفرادَ على لَفْظِ التَّثنيةِ، فتَراهُ غَلَّطَ ابنَ مالِكٍ في اختيارِه جَوازَ إضافةِ الجمْعِ إلى الْمُفْرَدِ، كما أنَّه قالَ: ولا يَجُوزُ ذلك إلاَّ في الشِّعْرِ، وأنَّه معَ الْمُثَنَّى لكَراهِيَةِ اجتماعِ التثنيتيْنِ، فظََهَرَ بُطلانُ قولِ أبي السُّعودِ.

أمَّا الراجِحُ في الوجهيْنِ في معنَى الناسِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهما فهو الوجْهُ الأوَّلُ، وهو أنَّهم الإنْسُ، وأنَّ قَوْلَه تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ لِمَنْ يَقومُ بالوَسوسةِ؛ أي: بيانٌ للوَسواسِ الْخَنَّاسِ، وأنَّه مِن كلٍّ مِن وَسواسِ الْجِنَّةِ ووَسواسِ الناسِ.

ويَظْهَرُ ذلك مِن أُمُورٍ:

منها: أنَّ الْخِطَابَ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ولأُمَّتِه تَبَعاً له، فهو في حَقِّ الناسِ أَظْهَرُ.

ومِنها: أنَّنا لو جَعَلْنَا "النَّاسِ" الأُولَى عامَّةً لِمَنْ يُوَسْوَسُ إليه كانَ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} مَصْدَرَ الوَسوسةِ، فيكونُ مِن وَسواسِ الناسِ مَن يُوَسْوِسُ في صُدورِ الْجِنِّ، وهذا بَعيدٌ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير