تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن المشركين الذين أنزل الله فيهم القرآن إنما كانوا يدعونهم شفعاء لهم عند الله، وكانوا يقولون: إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى، أي منزلة ودرجة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا، إذن هم لا يعتقدون في أصنامهم إلا بمثل اعتقاد المتصوفة في أوليائهم بأنهم لا يعطون شيئًا ولا يدفعون شيئًا، وإنما المعطي والدافع هو الله، ولكن هؤلاء الأصنام والمعبودات من دون الله ما هم إلا للمنزلة والدرجة، ومع ذلك وسمهم الله بسمة المشركين، وحاربهم الرسول الأمين في حياته كلها، فما الفرق بين القول بالمجاز وبين القول بالزلفى والقربة والمنزلة؟!

وإذا ثبت هذا تبين أن هؤلاء المتصوفة أشد شركًا منهم؛ لأنهم اعتقدوا فيهم القدرة والملك، والتصرف في الكون، بل الإحياء والإماتة وغيرها من الكفريات.

إن النسبة المجازية - على فرض وجود المجاز -: هي نسبة الفعل إلى غير الفاعل الذي صدر منه ذلك الفعل، لا يخلو من أمرين:

أحدهما: لكونه ظرفًا للفعل، كقول القائل: (أنبت الربيع البقل)؛ أي: (أنبت الله البقل في وقت الربيع).

ثانيهما: لكونه سببًا في صدور ذلك الفعل، كقول القائل: (بنى الأمير المدينة)؛ أي: (بنى المعماري المدينة بأمر الأمير ونفقته).

وإذا عُرف هذا، فإن الذي ينادي ميتًا، أو حيًا غائبًا، ويستغيث به، ويقول: يا فلان! أغثني، أو اشفني أو أنجني مثلاً، لا ينطبق عليه أنه ناداه واستغاث به مجازًا من ناحية كونه ظرفًا للفعل؛ لأن الميت والغائب ليسا بظرف للفعل، فلا يقال: إن الميت أو الغائب ظرف للنداء أو الإغاثة أو الشفاء أو الإنجاز، حتى يقال: إن هذه النسبة مجازية، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، فهذا المجاز لا يتصوره أحد، ولا يصح في مثل هذه الصورة ألبتة.

وأما الصورة الثانية من المجاز، التي هي: أن هذا المنادي المستغيث يقصد: أن الشافي والناصر والمنجي والمغيث هو الله تعالى في الحقيقة، ولكن يرى أن الولي الفلاني الذي يستغيث به ويناديه هو مجرد سبب لذلك.

فيقال لهم: إن هذا الاحتمال أيضًا غير وارد، ولا يصح المجاز في هذه الصورة أيضًا؛ لأن هذا المنادي المستغيث بهذا الولي الميت، أو الحي الغائب، لابد له من أن يعتقد فيه عقائد ثلاثًا:

الأولى: أن هذا الولي الميت أو الحي الغائب يسمع صوته ونداءه فوق الأسباب العادية.

الثانية: أنه يعلم بحاله ويطلع على مصيبته.

الثالثة: أن يعتقد فيه أنه يقضي حاجته بأن يشفع له عند الله.

فلابد من هذه العقائد الثلاث، وإلا لا يمكن جعله سببًا.

وإذا تحقق أنه لابد من أن يعتقد هذا المنادي المستغيث في ذلك المنادى المستغاث -الميت أو الحي الغائب- السمع المطلق، والعلم المطلق، والقدرة المطلقة، ومعلوم أن هذه كلها من صفات الله الخاصة به سبحانه، فالميت أو الحي الغائب لا يسمع نداء المستغيث، ولا يعلم بحاله ولايطلع على مصيبته، فقد قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، وقال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.

ثم إننا لو أولنا إسنادهم الأمور إلى غير الله واستغاثتهم بغير الله وطلب النفع ودفع الضر من غير الله باحتمال المجاز العقلي، فماذا يُفعل بأعمالهم الشركية؟ فهل يمكن تأويلها أيضًا بالمجاز؟

وإذا قلنا: نؤول، فبأي شيء نؤول سجودهم على أعتاب الأضرحة، وطوافهم بالقباب، وذبحهم للقرابين، وبذلهم النذور؟

فهل هذه الأعمال الشركية والأفعال الكفرية أيضًا: من باب المجاز؟

إن من المعروف أن التأويل والمجاز -حتى عند القائلين بهما- لا يُذهب إليهما إلا إذا كان غير منصوص، وأما إذا كان منصوصًا؛ مثل الأبيات الشعرية التي أوردناها، والحكايات التي ذكرناها عن المتصوفة، فلم يقل أحد بأن في المنصوص أي مجاز، وإنما المجاز -على رأي القائلين به- يكون على الظاهر المحتمل له.

الأهم من هذا كله هو أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن الكريم، وحكم بكفرهم، كانوا يعتقدون السببية والتوسط، وهذا هو حجة من يرى المجاز العقلي، ويبيح إسناد الأمور الخاصة بالله في ربوبيته وألوهيته لغير الله، فلو أن اعتقاد السببية والتوسط ينفع في حمل كلام من يدعو غير الله تعالى على المجاز العقلي، ويمنع من الحكم عليه بالشرك، لكان الله تعالى أعذر المشركين الذين يعتقدون التسبب والوساطة، ولحكم بالكفر على من يعتقد الاستقلال فقط.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير