مثالٌ آخر: إذا اُختلف في قيدٍ: هل هو احترازيٌ؛ فيعمل بمفهومه، أو قيد أغلبي تعليلي، فلا يعمل به؟! نقول: يُغَلَّبُ جانب الاحتياط، فيكون قيداً احترازياً؛ إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك ..
وليس الترجيح بالأحوط على إطلاقه .. فانظر -يا رعاك الله- مثلا إلى هذه المسألة:
من قال: أن القول بوقع الطلاق الثلاث في لفظ واحد أنه الأحوط (يعنى احوط من قولنا ان الثلاث انما هي طلقة واحدة) ..
وكيف يكون هذا أحوط وهو قد ارتكب مفسدتين:
1= حرم الزوجة على زوجها.
2= أحلها لغيره.
بل الأحوط اذا لم يتبين لك الدليل القول بعدم الوقوع ..
وقلْ مثله في طلاق السكران ..
وإنما يحسن الترجيح بالأحوط في صور:
1 - إذا كان القول بالاحتياط فيه صحة الأمر على قول المختلفين.
2 - إذا كان في الاحتياط ترجيحُ مصلحةٍ كدوامِ العشرة وحفظ الولد.
3 - إذا كان في الاحتياط براءةٌ للذمّةِ من متعلِّقٍ يكون فيها كالحجِّ؛ فإن الاحتياط في مناسكه عظيم، ويحسن بالفقيه أن يعمله أكثر ما يكون هناك؛ اذ وقوع خلافه يقتضى فساده ولزومه من قابلٍ، ومعلومٌ ما في هذا من المشقة وخاصة في هذه الأزمنة.
4 - يعمل بالاحتياط في حال غَلَبَةِ الظَّنِ بوقع الضرر؛ كأن يفتى بالقول بوجوب ستر الوجه في هذا الزمان المنكر، وكذلك تغليب الحرام لدرء المفاسد العظيمة المترتبة على قوله بالجواز في بعض المسائل كجواز الحيل وغيرها.
رابعها: طريقة الترجيح بالحديث الضعيف:
والامثلة على هذا الباب وهذه الطريقة فوق الحصر؛ بل هي من أكثر الطرق استخداما عند العلماء ..
خامسها: الترجيح بالاستصحاب؛ وهو على قسمين: اما استصحاب البراءة الشرعية، او الاصلية، ولنبدأ بذكر الاصلية:
فما كان الاصل فيه التوقيف= كان الترجيح فيه لمن قال بالحظر، وان كان الاصل فيه الاباحه كالمطعومات وغيرها= فإن الترجيح لمن قال بالاباحه.
كأن يأتي بعضُ من يقول بتحريم كلب البحر (وهو نوع من حيتانه)، حجته: ان الكلب مما حرم .. والاشتراك في الاسم العرفي واللغوي يقتضى اتحادهما في الحكم ..
فيكون الرد: أن الاشتراك في الاسم لا يقتضى الاشتراك في الحكم، وخاصة مع اختلاف الصفات بالكلية.
ويكون من المرجحات: أن الأصل في المطعومات الحل.
والاصلَ في ميتة البحر الحلُّ.
فيكون الترجيح لمن قال بالاباحة؛ لأنه على الاصل.
وهذه الطريقة نافعة في الحكمِ، ونافعةٌ فى الفتوى على الاعيان، وستجدها نافعة جدا في المسائل النازلة ..
وخاصةً أن الأصل البراءة فتستصحب .. وقد اُستفتى فضيلة الشيخ ابن عثيمين حول امرأة شكّت هل نامت على ابنها في الليل بما افضى الى موته او لا -اذ انها استيقظت الصبح فوجدته قد فارق الحياة-؟! فقال ما معناه: إن الاصل البراءة فلا شيء عليها، وقال: انه لا ينتقل عن الاصل الا بشيء واضح بين.
ثانيا: استصحاب الدليل الشرعي، وهو اقوى من جهة الترجيح من استصحاب البراءة الاصليه؛ وذلك لان ما ثبت بالدليل الشرعي ليس كما ثبت بالبراءة العامة ..
ولتعلم أخي: ان الاستصحاب من اضعف الادلة عند المعارضة -كما نص على ذلك شيخ الاسلام في غير ما موضع من فتاواه-، وأكثر مَنْ يسْتَخْدِمه كما هو بيّنٌ الظاهرية وخاصة ابن حزم رحمه الله، وكثيرٌ من اهل الحديث يقولون به؛ فتجد بعضهم اذا وجد حديثا ضعيفا واحدا في تقرير تحريم امر= لم يأخذ به، وبعضهم تجده يميل إلى القول بكراهية الأمر؛ لأنه وُجِدَتْ شبهةٌ في أصله تُوْجِبُ الاحتياط فيه ..
سادسها: الترجيح بكثرة القائلين:
قال أبو الزناد: كان من أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهى إلى قولهم, منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل, وربما اختلفوا في الشيءِ فأَخُذ بقول أكثرهم, إنهم كانوا يقولون: لا يصدق المصدق إلا ما أتى عليه، لا ينظر إلى غير ذلك، وقال أبو الزناد: وهي السنة.
ومن هذا الباب: تقديم القول الذي (قيل) بالاجماع فيه؛ مع عدم ثبوته.
سابعها: الترجيح بجلالة القائلين:
لاشك أن القول المعتضد بقول أئمة من أهل العلم= له من القوة ما ليس لغيره؛ وتتفاوت هذه القوة باعتبارات:
1 - ان يكون ممن برع في الفن الذي قال فيه بالقول المختار.
¥