4) إنه وردت أحاديث تفيد أن القارن لا يلزمه إلا طواف واحد ـ أي سعي ـ، ولو كان المتمتع كذلك؛ لم يكن للتنصيص على القارن فائدة، إذ من المعلوم أن المفرد لا يلزمه إلا سعيٌ واحد، فلم يبق إلا فائدة التفريق بين المتمتع والقارن، ومن ذلك مارواه النسائي وابن خزيمة، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: " أن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين قرنوا طافوا طوافاً واحداً ".
5) أما القول بإدراج الزهري، فيجاب عنه بأنه ورد التصريح بنسبته إلى عائشة، في رواية البخاري، وكذا في رواية ابن خزيمة (خرجنا في حجة الوداع، ... قالت: فطاف ..... الخ)، فهذا تصريح بأن القائل عائشة، لا محمد بن مسلم، وقد رواه ابن خزيمة عن يونس عن ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وهذا إسنادٌ غايةٌ في القوة كما هو ظاهر، وكذا في رواية ابن حبان أيضاً، وابن شهاب والراوي عنه ثقة متقن، وتوهيم الثقات بغير برهان لا تسعفه أصول، ولا يسعده دليل، والله أعلم.
و أما نسبه ابن تيمية القول بالإدراج إلى بعض النقاد، مع أنه لم يسمِّهم، مقابَلٌ بقول نظرائهم ممن صحح الرواية واعتبرها، والأصل يسند قول هؤلاء، والبينة على المدعي.
6) و أما حديث " دخلت العمرة في الحج .. " الحديث، فلا يعارض ما سبق، إذ معناه على هذا ـ والله أعلم ـ دخولها فيه بالنسبة إلى القارن دخولاً تامّاً، أما المتمتع فلا، بدلالة أنه يلزمه ـ أي المتمتع ـ الإحرام مرتين بالاتفاق، والطواف مرتين، مرة للعمرة وأخرى للحج، وكذلك الحلق أو التقصير يلزمه مرتين، ولو كان الحديث عامّاً عموماً مطلقاً، لم يلزم المتمتع تكرار ما فعله في عمرته، فتبين بذلك أن هذا من باب العامّ المراد به الخصوص، والله أعلم.
7) أما الرواية عن أحمد، فقد قال في المغني عن الأثرم قال: قلت لأبي عبدالله ـ رحمه الله ـ فإذا رجع أعني المتمتع، كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه "اهـ (3/ 467).
وفي مسائل عبدالله بن أحمد قال: قلت لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟
قال: إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافاً واحداً فلا بأس، قال: وإن طاف طوافين فهو أعجب إليّ.) اهـ[220]
فهذا تردد من أبي عبدالله، وترجيح للطوافين، والله أعلم.
8) أن هذا القول هو أوسط الروايات عن أحمد وأعدلها، فقد اختلف الناس في طواف القارن والمتمتع، على أقوال، هن روايات عن أحمد:
ـ فقيل: عليهما طوافان وسعيان: وهذا لأبي حنيفة، وهو و رواية عن أحمد.
ـ وقيل: عليهما طواف واحد، وسعي واحد: وهو رواية عن أحمد.
ـ وقيل بالتفريق بين النسكين، فعلى القارن طواف واحد، وسعي واحد، وعلى المتمتع طوافان وسعيان: وهو لجمهورهم، مالك والشافعي و ورواية عن أحمد، هي أصحها كما قاله صاحب أضواء البيان.
9) وأما قول جابر ـ رضي الله عنه ـ: " وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة "، فهو محمول على بعض أصحابه، وهذا البعض هم من كانوا قارنين حسبُ، كما أشار إليه ابن كثير أولاً، فهو من العام المراد به الخصوص.
و قد جاء في سنن أبي داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن قيس بن سعد، عن عطاء بن ابي رباح، عن جابر قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اجعلوها عمرة، إلا من ساق معه الهدي "، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة " (1/ 452).
فهذا يدل على أن جابراً ـ رضي الله عنه ـ يتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه الذين ساقوا الهدي، حملاً للضمير على أقرب مذكور.
والذي حملنا على هذا ما يلي:
ا ـ جمعاً بينه وبين حديثي ابن عباس وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ، و قد تقرر في الأصول أن الجمع ـ ما أمكن ـ أولى من الترجيح، وقد أمكن هنا.
ب ـ صعوبة الإحاطة بجميع أطوفة الصحابة، على كثرة عددهم، وتنوع أنساكهم، وجابر ـ رضي الله عنه ـ لم يكن في المسجد الحرام طوال يوم النحر وأيام التشريق، بل كان يتنقل لأداء نسكه كالباقين، ومعلوم أن الصحابة لم يطوفوا جميعاً في وقت واحد، فمنهم من طاف قبل الرمي، ومنهم من طاف قبل الحلق والذبح وهكذا. خاصة وأن جابراً ـ رضي الله عنه ـ اعتنى برصد صفة حج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا ربما أشغله عن متابعة أنساك باقي الأصحاب.
على أنه يمكن القول بأن حديث جابر نافٍ، وحديثا ابن عباس وعائشة مثبتان، والمثبت مقدم عند التعارض.
10)) أما قولكم ـ وفقكم الله ـ (وحتى لو قيل بأن عائشة رضي الله عنها كانت قارنة، فالعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، فيستدل بهذا الحديث للمتمتع).
فيورد عليه: أنه لا عموم في الحديث أصلاً، بل هو موجه إلى فرد وهو أم المؤمنين: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك)، فأين صيغة العموم في النص؟ ..
فقوله (طوافك): نكرة في سياق الإثبات، وهذه الصيغة ليست من صيغ العموم، خلافاً للنكرة في سياق النفي أو النهي، فهي مفيدةٌ له.
على أننا لو أعملنا قاعدة العبرة بعموم اللفظ، لابخصوص السبب، لقلنا إن هذا الحديث عام في عائشة ومن كان مثلها قارناً، دون من سواهم، إذ هذا هو القدر المتيقن، وإدخال المتمتع في مدلول هذا الخطاب مشكوك فيه على أقل تقدير.
""""""""""""""""""""""
وبعد ......
فهذه إشكالات خطرت لي على القول الذي ذهبتم إليه، ووالله إني لأحب أن يظهر لي صواب ما قررتموه لأتبعه، فلتقدح لنا بزنادك الواري، بارك فيك المولى، وفتح على قلبك الخالق الباري.
¥