الوجه السادس: الحديث المرفوع: (ما أبالى ما أتيت ـ أو ما ركبت ـ إذا شربت ترياقا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من نفسي)، مع ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف على أنه لم يقابل ذلك نص عام، ولا خاص يبلغ ذروة المطلب، وسنام المقصد في هذا الموضع ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الدليل الثالث- وهو في الحقيقة رابع: الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: (صلوا فيها فإنها بركة). وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؛ فقال: (لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين). ووجه الحجة من وجهين:
أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة، ولم يشترط حائلاً يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه، وقد مضي تقرير هذا. وهذا شبيه بقول الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقام. فإنه ترك استفصال السائل: أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها؟ مع ظهور الاحتمال، ليس مع قيامه فقط، وأطلق الإذن، بل هذا أوكد من ذلك؛ لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد.
والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش، والكنف، أو مكروهة كراهية شديدة؛ لأنها مظنة الأخباث والأنجاس. فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبًا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشًا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسي صلي في مبارك الغنم، وأشار إلى البرية وقال: ههنا وثَمَّ سواء. وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوي بين محل الأبعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها؟!
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فليست اختصت به دون البقر والغنم والظباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقًا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا.
الدليل الرابع- وهو في الحقيقة سابع: ما ثبت واستفاض من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته، وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض، وبركها حتي طاف أسبوعًا. وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة، لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك، وإنما الحاجة دعت إليه، ولهذا استنكر بعض من يري تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام، وحسبك بقول بطلانًا، رده في وجه السنة التي لا ريب فيها.
الدليل الخامس- وهو الثامن: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فأما ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله) وهذا ترجمة المسألة. إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولاً و ردًا، فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: هو موقوف على جابر.
فإن كان الأول، فلا ريب فيه، وإن كان الثاني، فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة ـ أبي موسي الأشعري وغيره ـ فينبني على أن قول الصحابة أولي من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع. وإن علم أنه انتشر في سائرهم، ولم ينكروه، فصار إجماعًا سكوتيًا.
الدليل السادس ـ وهو التاسع: الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ساجدًا عند الكعبة، فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورًا لهم، فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد ـ ولم ينصرف حتي قضي صلاته. فهذا ـ أيضًا ـ بين في أن ذلك الفرث والسلي لم يقطع الصلاة، ولا يمكن حمله فيما أري إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يقال: هو منسوخ ـ وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع ـ وإن لم يكن قد ثبت ـ لأنه بخطاب كان بمكة. وهذا ضعيف جدًا؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين، وأما بالظن، فلا يثبت النسخ. وأيضًا ـ فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبًا، لاسيما من يحتج على اجتناب النجاسة بقوله تعالى:
¥