وأما قولك" الذين يقسمون تقسيمك السابق" فأي تقسيم تعني؟ هل تعني تقسيم البدعة إلى اصطلاحية ولغوية؟ وهل تعترض على هذا التقسيم؟ وهل تريد مثالاً على أن الألفاظ تجري في ألسنة الصحابة على لغة العرب؟ أم تريد شاهداً على أن لفظ البدعة يرد في لسانهم بالمعنى اللغوي؟ إذا أردت الأخير فقد أوردت أنت فيه كلام ابن عمر في صلاة الضحى، وإذا أردت نصوص الشرع فنصوص الشرع يقدم فيها الحمل على المعنى الشرعي والذي يكون عادة مراعياً للمعنى اللغوي بتقييد أو إضافة وليس لزاماً كما في قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل) فالمعنى المراد هنا اللغوي.
على أن المعنى الشرعي يخرج عنه بقرينة كما في لفظ الصلاة التي هي في الشرع أقوال وأفعال مخصوصة ... عند التشهد.
ولفظ البدعة هنا سواء قلت بتقديم المعنى اللغوي فيه على اعتباره ليس نص كتاب أو سنة، أو لم تقل به فإن القرينة الصارفة عن المعنى الاصطلاحي قائمة وهي صلاة المسلمين لها زرافات ووحداناً قبل جمع عمر رضي الله عنه لهم.
والله أعلم.
أما كلامك عن أثر أبي ابن كعب فلا يسلم به فالأثر من طريق عيسى بن ماهان وروايته عن الربيع منكرة كما نص الحفاظ وإذا كان الضعيف لايتابع عليه فكيف بالمنكر فمثل هذه لاتعتضد بغيرها، أما ماوافق الثقات فيه فيقبل مالم يكن من طريق منكر جمعاً بين كلام أهل العلم، هذا فضلاً عن أن مخرج أثر عمر رضي الله عنه يختلف عن هذا فكيف يقال يشهد له!
ثم إن حكمك بأنها تشهد له على فهم نخالفك فيه لمعناها فكيف تستدل بموضع الخلاف! وكيف يقول لم يكن والناس تصلي حوله أوزاعاً! كما في البخاري وغيره.
أما تحسين ابن دهيش لإسناده فلا يغني من الحق شيئاً ولئن حسنه هو فقد ضعفه غيره وممن ضعفوه الألباني في التراويح فقال بعد أن ضعف ابن ماهان: " وفيه مخالفة أخرى وهو قوله: "هذا شيء لم يكن" ويبعد أن يقوله أبي ويوافقه عمر رضي الله عنهما وقد كان هذا الاجتماع في عهده صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه بالأحاديث الصحيحة في الفصل الأول والمفروض أنهما شهدا أو على الأقل علما ذلك، وهما من هما في العلم. وبالجملة فهذه الرواية عن أبي منكرة لا تقوم بها حجة". وصدق رحمه الله وكونك لم تعلم أحداً ضعفه ليس حجة في تصحيحك له وحسبك أن بعض أهل العلم المتقدمين أطلق ضعف الرازي.
أما حديث أبي أمامة فليس فيه شاهد لك، وغاية ما فيه نفى كتابته عليهم، وهذه الكتابة إما أن تحملها على الإيجاب أو تحملها على ندب القيام، فإن حملتها على الإيجاب فلا أحد يخالفك وبطل احتجاجك بالأثر، وإن حملتها على الندب فالنصوص الصحاح الصراح تعارضك وقد بوب البخاري في الإيمان قيام رمضان من الإيمان وفيه من قام رمضان إيماناً واحتساباً فكيف يقال بأنه لم يندب إليه! والنصوص في الندب إليه متظاهرة؟
على أنه قد يقال استشهاده رضي الله عنه بالآية مراده شقها الآخر (فما رعوها حق رعايتها) فقد ذكر المفسرون أن وجه الذم للنصارى فيها من جهتين الأولى الابتداع، والثانية عدم مراعاة ما ألزموا نفوسهم به (راجع كلام ابن كثير فيها) فلم يرد كل الدلالة وأراد طرفها الآخر وعلى هذا الحمل لايكون هناك تعارض بين رواية شجاع بن مخلد ورواية الطبري عن يعقوب بن إبراهيم وبهذا لاتكون بينهما مخالفة إن قلت ليست مخالفة ولكن تفرد شجاع قلت الأولى أن تعل بتفرد ابن أبي مريم الذي نتفق على أنه لم يصل إلى درجة الثقة!
فإن قلت عنى أبو أمامة قياماً خاصاً قيل لك هات الدليل على أن مراده خاص مع أن لفظه عام.
ومع ذلك فالذي يظهر أن الحديث ضعيف وضعفه من جهة تفرد بن أبي مريم، أما قولك: أقول: من الذي قال عن زكريا بن أبي مريم أنه ضعيف؟
قاله الهيثمي ونقله (المجمع 3/ 139): "وفيه زكريا ابن أبي مريم ضعفه النسائي وغيره".
وقد ذكره صاحب المغني في الضعفاء وكذلك ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين وكذلك العقيلي في ضعفائه
أما قولك أنه صدوق يخطيء فلعل هذا ما لم يقل به أحد إلاّ إن كنت ترى أن أمثال لفظ صدوق يخطيء أو يهم أو سيء الحفظ تفيد الرد وهو مذهب جماعة في مرتبة ابن حجر الخامسة، أما ما نقلته أنت من جرح فيفهم منه ما شرحته من قول الدارقطني ويفهم عدم قبوله من قول من تتبع أحاديثه كابن عدي الذي قال ليس فيما روى عنه هشيم (مع ملاحظةأن هذا الأثر من طريق هشيم عنه) حديث له رونق وضوء! ومنه صنيع شعبة، الشاهد على قولك فإن مثل هذا يعتبر بحديثه إن جاء له شاهد قابل للاعتبار وهو ظاهر كلام الدارقطني الذي نقلته فأين الشاهد الذي يعتبر به هنا ليقبل حديثه؟ ولا تستشهد على فعل أبي أمامة بغير ما ورد عنه يرحمك الله.
أما محاولة التعلق بقول الدارقطني لابأس به فلا تفيد فمن لابأس به يكتب حديثه وينظر فيه فهي قريبة من قوله ليس بالقوي ولاتفيد القبول مطلقاً (ينظر رسالة في الجرح والتعديل ص28 وكذلك الكفاية في علم لاروايةص23).
ويؤيد هذا (أي أن مراده صالح للاعتبار) حكمه بنفسه على بعضهم بأنه لابأس به وتصريحه بأن القصد الاعتبار .. في حكمه على راشد بن سعد بأنه لابأس به ويعتبر به إذا لم يحدث عن متروك. فجعل لابأس به بمعنى يعتبر به.
بل قد يقال قول الدراقطني لا بأس به لايفهم منه حتى صلاح الراوي للاعتبار (اصطلاح خاص بغض النظر عن تحريره) بدليل أنه نقل عن قوله في زياد بن الحسن بن الفرات لابأس به ولايحتج به في موضوع واحد. ولأنه إن أراد قبول الراوي يعقب بعد قوله لابأس به وثقة أو نحو ذلك كما صنع مع غير واحد.
وبهذا يتضح أن الرجل لم يوثقه أحد وغاية ما قيل فيه من تعديل أنه صالح للاعتبار، ومع ذلك فقد تفرد بهذا الأثر.
فكيف إذا كان متكلماً فيه، فكيف إذا خصوا رواية هشيم من طرقه، فكيف وقد تفرد.
والخلاصة الحكم بقبول تفرد الرجل مجازفة لايوافق من ذهب إليها.
وعلى كل حال الموضوع قد تشعب ولعل فيما سبق كفاية في الرد على ما ذكرتم ولو وجدت سانحة أخرى أطلت النفس في بعض المسائل التي ربما احتاجت إلى مزيد بيان، والله المستعان.
¥