لكن من الناس من تعوذهم الفطنة، ومنهم جهال لا يسمعون ولا يعقلون ما فى أور الله تعالى من الخير فكانت مهمة الفقه أن يبين لهؤلاء ويرشدهم.
غير أن من هؤلاء من لا يفتقر إلى هداية البيان فحسب ولا يزعه إلا عصى الجماعة دون أن يخرجه ذلك عن صفة الإيمان وأهلية الخطاب، بل إن له حظًا من الإيمان والفطرة السليمة كما أن لكل مؤمن نصيب من اتباع الغرائز.
وقد نظر الفقه الإسلام إلى هذه الدوافع على أنها مختلطة وممتزجة وغير مجردة فالعقل هو مناط التكليف، والإيمان شرط الامتثال، ولا يعمل الإنسان إلا بحظ ولا ينتهى إلا إذا أيقن بما يجره عليه التمادى من الآلام فى الآخرة أو فى الدنيا أعظم من لذة قد تكون فى المخالفة.
إن نظرة الفقه للإنسان ككائن أخلاقى تميزت بالشمول والواثعية ونأت عن المثالية والتجرد الذى ادعاه المثاليون والذى جعل من (الأخلاق) علمًا مجردًا عن الواقع
2 - الغاية الأخلاقية
تباينت أقوال الفلاسفة وعلماء الأخلاق فى الغاية من السلوك الأخلاقى غير أنها تدور حول جلب المصالح ودفع المفاسد عن الإنسان أو عن النوع الإنسانى.
وباستقراء الشريعة قد تبين أنها قد وضعت وفق مصالح العباد، وهو ما لا ينازع فيه منكرو التعليل من المتكلمين والقائلون به بمعنى الأمارة أو العلامة؛ فالأحكام العادية تدور مع مصالح العباد وجودًا وعدمًا، والشىء الواحد قد يمنع فى حال لا تكون فيه مصلحة للعبد فإن وجدت فيه المصلحة جاز، والإذن دائر معها حيث دارت، بل إن النصوص الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى:
فمن العام قوله تعالى ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) ومن الخاص قوله تعالى ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)).
وقد يمكن مراعاة ذلك أيضًا فى سائر العبادات كما ذهب الأحناف، كما أن ذلك التصور قد أدى بالمالكية إلى القول بالمصالح المرسلة والاستحسان الذى قال عنه المالكية إنه تسعة أعشار العلم.
فتكاليف الشريعة ترجع عند الفقهاء إلى حفظ مقاصدها فى الخلق، وقد قسم الفقهاء مقاصد الشريعة إلى أصلية وتابعة:
أما الأصلية فلا تعدو ثلاثة أقسام: أن تكون ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية.
فالضرورية ما لا بد منه لقيام مصالح الدين والدنيا، والحفظ لها يكون بأمرين:
إقامة أركانها؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب العبادات لحفظ الدين من جانب الوجود، وفى باب العادات لحفظ النفس والعقل، وفى باب المعاملات لحفظ النسل والمال ... ثم من جانب ما يدرأ اختلالها؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب الجنايات لحفظ الجميع من جهة العدم.
وأما الحاجيات فهى ما يفتقر إليه فى التوسعة ورفع الضيق المؤدى فى الغالب غلى الحرج وإن لم يبلغ مبلغ الفساد فى الضروريات؛ ولهذا شرعت الرخص فى العبادات والمعاملات.
وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات ويجمعها قسم مكارم الأخلاق.
وهذه جملة المصالح الأصلية التى تقصد الشريعة إلى حفظها ودفع ما يضادها وشرعت لأجلها الأحكام التكليفية وهى إما عينية أو كفائية:
فعينية من جهة ما أمر به المكلف من حفظ نفسه ونسله وماله وعقله ودينه، وكفائية من حيث توجيه الطلب للملف بأن يقوم بها على العموم فى جميع المكلفين وغيرهم لتستقيم الأحوال العامة والتى لا تقوم الخاصة إلا بها لتستقيم الأحوال والتى لا تقوم الخاصة إلا بها، فهو مأمور بإقامة الوجود فى نفسه وغيره ومأمور بخلافة الله فى عباده على حسب قدرته، ولا يجوز ترك شىء من ذلك لأن فى تركه فساد للعالم.
وأما المقاصد التابعة فهى التى روعى فيها حظ المكلف من تحصيل مقتضى ما جبل عليه من نيل شهوات واستمتاع بلذات وسد خلات.
وتشترك الغاية الأخلاقية فى الشريعة الإسلامية مع الغاية الأخلاقية فى الفكر الفلسفى عامة فى أمور كما تختص بأمور أخرى:
فأما ما تشترك به فهو أنها غايات مطلقة، وأنها كلية وعامة وأبدية:
¥