إلى الأول , ثم الأصل عدم الإرادة وقت العقد فلا بد له من دليل
قلنا الجواب أوجه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جوز لها مراجعة الأول إذا جامعها الثاني بعد أن يتبين له رغبتها في الأول , ولم يفعل بين أن تكون هذه الإرادة حدثت بعد العقد أو كانت موجودة قبله , دل على أن الحل يعم الصورتين , فإن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال بمنزلة العموم في المقال , حتى لو كان احتمال تجدد الإرادة هو الراجح لكان الإطلاق يعم القسمين إذا كان الاحتمال الآخر ظاهرا , والأمر هنا كذلك , فإن المرأة التي ألفت زوجا ثم طلقها قد يبقى في نفسها منه في كثير من الأحوال , والنساء في الغالب يبغضن الطلاق ويحببن العود إلى الأول أكثر مما يحببن معاشرة غيره. ا
لجواب الثاني: أن هذه المرأة كانت راغبة في زوجها الأول بخصوصه ولم يكن لها رغبة في غيره من الأزواج , ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها {قالت: طلق رجل امرأته فتزوجت زوجا غيره فطلقها , وكان معه مثل هدبة الثوب فلم تصل معه إلى أي شيء تريده فلم يلبث أن طلقها , فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي فلم يكن معه إلا مثل الهدبة , فلم يقربني إلا هنة واحدة لم يصل منه إلي شيء , فأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته} , متفق عليه. وكذلك في حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها {أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها , فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول} , وروى مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير {أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا , فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يغشاها ففارقها , فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزويجها. وقال لا يحل لك حتى تذوق العسيلة}. وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث. وزاد {فقعدت ثم جاءته فأخبرته أن قد مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول , وقال: اللهم إن كان إنما بها أن يجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى} , ثم أتت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما فمنعاها , فهذا يبين أنها استفتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها رفاعة , لا طلبا لفرقته بل طلبا لمراجعة الأول , وأخبرت بصفة إفضائه ليفتيها النبي صلى الله عليه وسلم هل حلت للأول أم لا فلما أفتاها أنها لا تحل إلا بعد الوطء قعدت ثم أخبرته أنه كان قد مسها فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها كاذبة , وإنما حملها على الكذب أنها لما أخبرت أولا بحقيقة الأمر لم تحل , فأخبرت أنه قد مسها فمنعها النبي صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى الأول ; لأنها أخبرت أولا بأنه لم يواقعها ثم أخبرت بخلافه فلم يقبل رجوعها عن الإقرار , وقال اللهم إن كان ما بها إلا أن تجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى دعاء عليها عقوبة على كذبها بنقيض قصدها لئلا يتسرع الناس في الكذب الذي يستحلون به الحرام.
ثم إنها أتت في خلافة الشيخين وهذا كله أبين دليل على أنها إنما كانت رغبتها في رفاعة لا في غيره , وإلا ففي الأزواج كثرة فهذا الإلحاح في نكاحه وتأيمها عليه عسى أن تمكن من نكاحه ومراجعة ولاة الأمر فيه دون غيره والدخول في التزوير مع أن النكاح بغيره ممكن لا يكون إلا عن محبته منها له دون غيره , وهذه الإرادة والرغبة لم تتحد بإعراض عبد الرحمن عنها , فإن إعراض عبد الرحمن عنها أكثر ما يوجب إرادتها للنكاح ممن كان , أما من هذا الرجل بعينه فإنما ذاك لسبب يختص به , وهذا لم يحدث بعد النكاح بسبب يقتضيه , فعلم أنه كان متقدما ; لأن الأصل عدم ما يحدث , ثم هذه المحبة منها له إنما سببها معرفتها به حال النكاح , وإلا فبعد الطلاق ليس هناك ما يوجب المحبة , نعم قد يهيج الشوق عند المنع منه , لكن ذلك مستند إلى محبة متقدمة , ولا يقال تزوجت بغيره لعلها تسلو فلما لم يعفها , هاج الحب ; لأنه لو كان كذلك
¥