وأعظم ما تلمس في هذه الآثار الواردة في الحجّ:
- عنايةُ السّلف بالتوحيدِ .... ونبذ الشرك:
نعم! لا فائدة من حجٍّ لا يقوم على التوحيد .. ونبذ الشرك ..
إنّ مَنْ يقول وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع: «مَدَداً يا رسولَ الله»
أو «مَدَداً يا علي» .. أو يذبح لغير الله، ويتوسل بالأولياء والصالحين ..
ويدعوهم من دون الله .. لم يستشعر أنّ الحج شُرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل،
قَالَ تعالى:] وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [(الحج: 26).
فللتوحيدِ أُقيمَ هذا البيت مُنذُ أوَّل لحظة عرَّف الله مكانه لإبراهيم - عليه
السلام -، وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس:] أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [.
وقال تعالى في سياق آيات الحج:] حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [
(الحج: 31).
وفي القرآن الكريم سورة تُسمّى «سورة الحج»، كلها تتحدث عن التوحيد
والعبادة، ونبذ الشرك بجميع صوره، وتنعى على أولئك الذين يعبدون غير الله
تعالى، أو يدعون من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم، بل يدعون مَن ضَرُّه أقرب
من نفعه.
وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: «ثم أهلَّ بالتوحيد: لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك
لبيك» [1].
ومما يُشرَعُ في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاصٍ وصدقٍٍ، ففي
حَدِيثِ عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: كانَ أكثر دعاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» [2].
ومما تلمس في هذه الآثار أيضاً:
- تعظيم حرمات الله:
وهذا التعظيم امتثال لأمر الله عز وجل في قوله في سياق آيات الحج:] ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه [(الحج: 30). فهل عظَّم حرمات
الله من واقعها وفي الحج أيضاًَ؟!
كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستُنكرت؛
فكيف بالحاج؟!
فيا حجاجَ بيتِ الله! حُجّوا كَما حَجَّ الصالحون؛ بدءاً من إمامِ الصالحين
المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان
من سلفنا الصالح ..
لا أطيل عليك - أيها القارئ الكريم - وأدعك تعيش مع حج الصالحين ...
علّك تضع لك منهجاً علمياً وعملياً مستفيداً من سِيَر هؤلاء الصالحين وأخلاقهم
وأعمالهم ...
1 - قَالَ مجاهد: قَالَ رجلٌ عند ابنِ عُمر ما أكثرَ الحاج! فقالَ ابنُ عمر: ما
أقلهم! قَالَ: فرأى ابنُ عُمَر رَجلاً عَلى بعيرٍٍ عَلى رَحلٍٍ رَثٍّ خطامه حبل، فَقَالَ:
لعلَّ هذا [3].
2 - قَالَ الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، قَالَ: فما سمعناه
متكلماً إلا بذكر الله حتى حلّ، فَقَالَ له: يا ابن أخي هكذا الإحرام [4].
3 - قَالَ منصور بن المعتمر: «كَانَ شُرَيح هو: ابن الحارث القاضي إذا
أحرمَ كأنَّه حَيةٌ صمَّاء» [5].
قَالَ ابن قدامة تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي: «ويستحب له قلة الكلام
إلا فيما ينفع، وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صمّاء»: (وجملة
ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع
في الكذب وما لا يحل، فإنَّ مَنْ كثر كلامه كثر سقطه. وهذا في حال الإحرام أشدُّ
استحباباً؛ لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف، وقد
احتج أحمد على ذلك بأن شريحاً - رحمه الله - كان إذا أحرم كأنه حية صماء،
فيُستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر بحاجته أو يسكت، وإن تكلم
بما لا مأثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يُكْثِر) [6].
4 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: «حَجّ مَسروقٌ هو: ابن الأجدع فَمَا نَامَ إلاّ
سَاجداً» [7].
¥