تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المسح على الجوربين هو ظنهم أن المغيرة رضي الله عنه قد رافق النبَّي صلى الله عليه وسلّم في أسفارٍ متعددة و شاهده في أحوال مختلفة، و مِنْ ثَمَّ فهو يروي كل ما رآه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلّم حال وضوئه، و لأجل ذلك تعدَّدت الرِّوايات عنه، فمرَّةً روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مسح على الخفين، ومرَّةً روى عنه أنّه مسح على العمامة، ومرَّةً روى عنه أنّه مسح على الخمار، وفي أخرى أنه مسح على ناصيته وعمامته، ومرّة قال كان يغسل ثلاثاً، فمن المقبول جداً أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مسح على الجوربين والنعلين، وكل هذه الروايات إنما هي حكاية ما رآه المغيرة في وقائعَ مُتَعدِّدة. فلماذا إنكارُ روايةِ المسح على الجوربين من بين كلِّ تلك الرِّوايات؟ والذي ساعدهم على هذا الفهم ـ في رأيي ـ أن ألفاظ الروايات عن المغيرة جاءت مختلفة، فمرّة يقول في أحد أسفاره، ومرّة يقول في غزوة تبوك، وفي رواية يقول ثم صلى الصبح، وفي أخرى يقول فأدركنا الناسَ يصلي بهم عبدُ الرحمن بن عوف .... وهكذا.

وعند البحث والتدقيق واستقصاء معظم تلك الرِّوايات تبيّنَ لي أنّ القصَّةَ واحدة وما يرويه المغيرة رضي الله عنه إنما هو حادثةٌ جرتْ معه في غزوة تبوك فقط ولم تتكرر. والرُّواة الذين سمعوها منه إنما يروونها مجزّأةً، أو أنه كان يحدِّث بها في بعض الأحيان كاملةً وفي أحيان يحدث بها مختصرة، وهذا الأمر معروف عند علماء الحديث، فالراوي قد ينشط فيحدّث بكامل الرواية، وقد يكون متعباً فيختصرها ويقتصر على ذكر موضع الشاهد.

و صيغة حديث المغيرة بن شعبة كما رواها الإمام مالك في الموطّأ والإمام أحمد في مسنده هي: (أنّ رسول صلى الله عليه وسلّم ذهبَ لحاجته في غزوة تبوك، قال المغيرة: فذَهَبْتُ معه بماءٍ، فجاء النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَسَكَبْتُ عَليه، فَغَسَل وجهه، ثُمَّ ذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَديه مِنْ كُمِّ جُبَّته، فلم يستطعْ مِنْ ضِيق كُمِّ جبّته، فأخرَجَهما مِنْ تحت الجبّة، فغَسَل يدَه، ومسح برأسه، ومَسَح على الخُفّين، فجاءَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم، وعبدُ الرحمن يؤُمُّهم، وقد صلّى لهم ركعة، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَعَهم الرَّكعة التي بقيَت عليْهم، فَفَزِعَ النّاس، فلمّا فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: أحسنتم). انتهى

و " تبوك " مكانٌ بينه وبين المدينة من جهة الشّام أربع عشْرَة مرحلة (800كم تقريباً)، وبينه وبين دمشق إحدى عشْرة مرحلة، إذاً المسافة ما بين تبوك والمدينة كبيرة والسّفر فيها يستغرق أياماً ولياليَ عِدّة، والحادثة التي جَرَتْ مع المغيرة كانت في إحدى هذه الليالي، لذلك كان يقول مرّةً: خرجْتُ مع النّبي في بعض أسفاره، ومرّة في سفَرٍ، ومرّة يسمي الرّحلة فيقول في غزوة تبوك.

وكما مرَّ آنفاً فإن المغيرة تعلَّمَ المسحَ على الخفّين في طريق السفر لهذه الغزوة، وغزوة تبوك كانت في آخر السّنة التاسعة للهجرة، ولم يخرج بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا لحجّة الوداع قبل وفاته في السّنة العاشرة، وهذا أوضح دليل على أن قول المغيرة: " خرجْتُ مع النّبي في بعض أسفاره " يعني غزوة تبوك لا غيرها، لأنه من غير المقبول أن يَتَعلَّم المغيرة ـ وهو من أذكى الناس بل من دهاة العرب ـ حُكْمَ المسحِ على الخفّين من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثمّ كلما رآه في أسفاره يمسح عليهما يقول له: لم تنزعْ خفيك يا رسول الله؟ أو لقد نسيت يا رسول الله؟ أو يهوي لينزع له خفيه؛ وإنما مَرَدُّ كلِّ تلك الرّوايات هو إلى هذه الواقعة، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلّم. ولمّا كان هذا الأمر واضحاً في أذهان أئمة الحديث الكبار، ثمّ جاءتهم رواية المسح على الجوربين عن المغيرة رفضوها وقالوا عنها: إنها معلولة والمحفوظ عن شعبة المسح على الخفّين. وإليك المزيد من الأدلة على أنّ الواقعة واحدة ــ باختصار ــ:

1 ًـ إنّ في جميع تلك الرّوايات المختلفة، على كثرتها، قولَ المغيرة وهو يصف النبي صلى الله عليه وسلّم: " و عليه يومئذٍ جُبَّةٌ شاميّة، فذهب يغسل ذراعيه، فضاق عليه كمُّ الجُبّة، فأخرجهما من تحت جُبَّته "

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير