وجدتَ أن الصحابة كانوا يعانون من شدّة البرد فرخّص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمسح على العصائب وهي العمائم، والتساخين وهي الخفاف. وهذا هو اليسر في الدّين، لا كما يتصوَّره البعض فيقولون يجوز لمن يلبس الجوارب العادية وهو شابٌّ يجلس على السجّاد في بيت دافئ وعنده الماء الساخن الذي ينساب من الصنبور وبجانبه المنشفة الدّافئة، فقط يلزمه أن يخلع جوربه بحركة بسيطة، فيقولون له لا يلزمك ذلك بل يكفيك المسح و هو أفضل!.
ــ وانظر إلى تعليق شيخ الإسلام على هذا الحديث حيث قال:
" .. ومعلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها مَنْ يمسح التساخين والعصائب ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز، فأهل الشام والرّوم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز، والماشون في الأرض الحزْنة والوعرة أحقّ بجواز المسح على الخف من الماشين في الأرض السهلة .. " انتهى الفتاوى ج 21 صـ 188
_ وهذا ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما كان يأمر، المفتين بجواز المسح على الخفّين، أن يفتوا بذلك عند البرد الشديد أو السّفر البعيد.
كما روى البيهقي من طريق عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" أنا عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفّين، فقضى لسعد، فقلتُ: لو قلتم بهذا في السّفر البعيد والبرد الشّديد ".
وهذا سندٌ صحيحٌ جداً وعلى شرط الشيخين.
_ وقال الإمام ابن تيمية: " ولا يُشرعُ له أن يلبس الخفّين لأجل المسح. انتهى الفتاوى ج 26 صـ 94
_ ولذلك قال الإمام الكاساني في " بدائع الصنائع " ج 1
: .. ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب، بخلاف اللفافة، والمكعب ; لأنه لا مشقة في نزعهما. انتهى
_ فكما ترى إن مفهوم الرّخصة عند العلماء مقرون بالأسباب التي لأجلها كانت الرّخصة، وليس بمعزل عنها، ألا ترى كيف وقّت النبي صلى الله عليه وسلّم، لمّا رخّص بالمسح على الخفّين، للمقيم يوماً وليلة، وزاد المدّة إلى ثلاثة أيّام للمسافر، وما ذلك إلا لأنّ المشقّة , في نزع الخفّين للمسافر , قد زادت!
ــــ ونحن نعلم أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم قد قال:" إنّ الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه، كما يَكْرَهُ أن تُؤتَى معصيَتُه " رواه أحمد بسند صحيح
وفي رواية ابن حبّان والبيهقي " كما يحب أن تؤتى عزائمه " وسندها حسن.
ولكن يجب علينا أوّلاً أن نتيقّن من أن هذه الرخصة هي من عند الله. ثمّ لا نخرجها عن مفهوم الرّخصة في الشرع. وكما رأيتَ فإنّ رخصة المسح على الجوربين لم تثبت أبداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلا يصحُّ لنا إطلاقُ العمل بها دون شروط المرخّصين بها، ودون دواعي الحاجة والضّرورة التي ذكروها. وقد مرّتْ معنا أقوالهم في شروط و ضوابط المسح على الخفّين الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما بالك في المسحِِِِِ على الجوربين الذي لم يرد عنه صلى الله عليه وسلّم!
ـــ أمّا مسألة أيّهما أفضل المسحُ على الخفّين أو ما يقوم مقامهما أم غسل القدمين؟
فإنّ الجمهور على أنّ الغسل أفضل. وقال الحنابلة المسح أفضل. والذي حمل الحنابلة على هذا التّفضيل ـــ في رأيي ـــ هو صراعهم مع الفرق المبتدعة التي كانت تنشط في زمانهم، والتي كان ديدنُها رفضُ السُنن النبويّة و الإخلال بالأحكام الشرعيّة، فلمّا رفض المبتدعةُ المسحَ على الخفّين بعد ما ثبتت الأحاديث المجوّزة له، كان ردّ فعل الحنابلة هو الانتصار لهذه السنّة والمبالغة في تفضيلها. وأَعْدَلُ أقوالهم هو قول الإمام ابن تيمية: ". . ولا يشرع له أن يلبس الخفّين لأجل المسح، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته، فهل الأفضل أن يمسح عليهما، أو يخلعهما، أوكلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: والصّواب أنّ المسح أفضل، اتّباعاً للسنّة. انتهى الفتاوى ج26 صـ94
¥