ثم الانتقاص الذي هو ضد التفضيل، يتفاوت الناس فيه كذلك. كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى المرء على قدر دينه). الشاهد أن هذا الابتلاء على الأنبياء قد يسلم منه الكفار، أما الأنبياء فيصبرون لله ويشكرون، ويزيد ما ابتلُوا به قلوبَهم تعلقاً بالله تعالى، حتى يكون ذلك رفعة لهم.
وبهذا يعلم أن التفضيل والانتقاص كل منهما ابتلاء من الله تعالى: فأما من شكر وصبر، كان ذلك فضلاً له يفوق التفضيل بالإنعام، فيرتقي بشكره وصبره درجةً. وأما من كفر وتسخط، كان ذلك انحطاطاً يفوق ما ارتفع به من الإنعام، فينحط بكفره وسخطه دركة.
ومصداق ذلك قوله تعالى مستنكراً: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلا). أي كلا، ليس الأمر كما قالا، بل الذي أكرمه الله ففضله بالمال قد ينحط ببخله، كما قد يرتقي بكرمه. وكذا من انتقصه الله مالاً، قد يرتقي برضاه، كما قد ينحط بتسخطه. والله سبحانه أعلم بمراده.
وبذلك نخلص إلى نتيجة هامة جداً، وهي أن مطلق التفضيل لا يعني التفضيل المطلق. كما قال تعالى: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق). فالغني قد فضله الله تعالى في الرزق ولو كان كافراً، على الفقير ولو كان مؤمناً، ولم يلزم من هذا التفضيل تفضيل مطلق. إذ الأمر كما مر: إن شكر المفضَّل نعمة الله وأدى شكرها، فهذا فضل آخر من الله هو أعظم من الأول. وإن كفرها انحط بكفرها أكثر مما قد ارتفع بما آتاه الله من فضله، فكانت النتيجة انسفاله لا ارتفاعه، والله المستعان.
ولعل ما تراه العيون أقرب للفهم مما تقدره الأذهان. فلو أن رجلاً وقف على درجة سلم، فازداد بقيامه عليها طولاً، ووقف بجواره رجل على درجة من السلم هي أسفل منها فنقصت من طوله. فهنا الأول زاد، والثاني نقص، لكن لا يحكم أيهما أعلى هامة من الآخر، لاحتمال أن يكون الذي على الدرجة العلوية طفل صغير أو رجل قصير، كما يحتمل أن يكون الذي على الدرجة السفلى رجل طويل.
بل والأمر يزداد على ذلك، فمطلق التفضيل ولو أدى الإنسان شكر ما فضله الله به، لا يدل على التفضيل المطلق.
ثم إنا نرى من أنبياء الله تعالى من فضل بما لم يفضل به غيره، فهذا مطلق فضل، ثم نرى غيره أفضل منه فضلاً مطلقاً. مثاله أن الله تعالى قد علّم يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام تأويل الرؤى، ولم يعلم مثل ذلك لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن إبراهيم خير منه عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم قل مثل هذا في أصحاب نبينا صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنهم أجمعين. فإنا نقرأ من فضائل علي رضي الله عنه أن زوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته الطاهرة رضي الله عنها وأرضاها. ولم يكن ذلك لأبي بكر رضي الله عنه. فهذا مطلق فضل اختص الله به علياً على أبي بكر رضي الله عنهما، لكنه لم يلزم منه الفضل المطلق، بل قد فاق أبو بكر رضي الله عنه كل الأمة وفيهم علي وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
بعد ذلك أذكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن). قلن رضي الله عنهن: (وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله)؟ صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (أليس شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل)؟ قلن رضي الله عنهن: (بلى). قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)؟ قلن رضي الله عنهن: (بلى). قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فذلك من نقصان دينها).
والحديث متفق عليه.
فماذا يعني نقصان الدين هنا؟ إذا لم تصلّ لحيض فقد أطاعت الله، فكيف يكون ذلك نقصاناً؟ أوليست طاعة الله تزيد المرء ولا تنقصه؟ نعم، هذا صحيح، فالمرأة لم تنقص، ولكن دينها نقص.
وهل ثمة فرق بين أن تنقص المرأة أو ينقص دينها؟ نعم، لأنّ أنْ تنقص المرأة من دينها أي أن تفرط وتقصر فتخل به، أما أن ينقص دينها مع إتمامها له على نقصانه ليس فيه ما تذم به، بل فيه من الرحمة بها والرأفة ما هو ظاهر، وإن كان فيه من نقصان الأجر والقربة ما هو ظاهر كذلك.
أما الرحمة والرأفة فلأن نقصان الدين يعني قلة التكاليف، وقلتها تعني يسره.
¥