تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأقصى ما ثبت في التأريخ أن هذه اللغة كانت في قبائل مِن ولد سام بن نوح

عليه السلام وهم: عاد وثمود وجرهم الأولى ووبار وغيرها وقد انقرضت أجيال

هؤلاء إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يُروى عنهم من الشعر،

وقد أنكر العارفون على مَن كتب في السيرة أشعارا كثيرة ونسبها إلى عاد وثمود، ثم

انتقلت إلى بني قحطان وكانوا يتكلمون باللسان الكلداني لسان أهل العراق الأصليين

وأول مَن انعدل لسانه إلى العربية (يعرب بن قحطان) وبعد أن نشأت منها الحميرية

لغة أهل اليمن انتقلت إلى أولاد إسماعيل عليه السلام بالحجاز، ولم تكن لغة

إسماعيل عربية بل كان عِبرانيا على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم انخرط في

شعوب العرب بمجاورتهم ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة فنطق بلسانهم

وورثه عنه أولاده؛ فأخذوا يصوغون الكلام بعضه مِن بعض ويضعون الأسماء

بحسب ما يحدث مِن المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها وصار لها

شأن عظيم وتأثير بليغ.

ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم وبدائع

خُطَبِهم وقصائدهم في سوق عُكَاظ وسوق مُجنة؛ إذ يَفِدون عليها في موسم الحج

ويقيمون في عكاظ ثلاثين يومًا وفي مجنة سبعة أيام يتناشدون ما وضعوه في الشعر

ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته

كالنابغة الذبياني ويعرضون عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهدد بعضا بنظم

الهجاء وتسييره في ذينك الموضعين قال: أمية بن خلف يهدد حسان رضي الله عنه.

ألا مَن مبلغ حسان عني مغلغة تدب إلى عكاظ

وقال حسان في جوابه:

أتاني عن أمية زُورَ قول وما هو في المغيب بذي حِفاظ

سأنشر إن بَقِيتُ له كلامًا يُنشر في المَجنة مع عُكاظ

ومِن شواهد هذا أن الحارث بن حِلزة اليشكري كان شاعرًا حكيمًا ولكنه ابْتُلِيَ

بوضح (بَرَص) ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه ويأبى

أن يستمع إلى خطابه إلا مِن وراء ستار، فدخل عليه يومًا وأنشد بين يديه قصيدته

المعدودة في المعلقات:

آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماء رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواء

وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر و تغلب فبهرت عمرًا برائع نظمها

واستولت على لبه بسحر بيانها فأخذته هِزة وارتياح ولم يتمالك أن أمر برفع الستار

ما بينهما.

واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول والتنافس في مقام

الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ما أُنزل عليه

من القرآن، كما جاء عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن

الله لمّا أُرْسِل إلى قومٍ توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بُعث موسى عليه

السلام إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية فأتاهم في مقام المعجزة بأبدع ما يكون في

قلب الأعيان وإراءتها في غير صورتها الأولى.

ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى ودخلت في أهم دور يحق

علينا أن نسميه عصر شبابها فنمت عروقها وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من

الأساليب.

ومِن مآثر هذه الحياة الراقية أَنْ كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى

نسقًا وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاوراتهم.

والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتي بلغت أشدها وأخذت زخرفها أمور ثلاثة:

أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع والتصرف في لسان

العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب

المعتادة للفصحاء قاطبة - وإن لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة - واتفق كبراؤهم

على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به وإنْ تفاضل الناس

في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة.

ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يَردُ عليها القرآن بعدم القياس

عليها كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن

أوردوا في مثاله قوله تعالى] وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [(الروم:

24) الآية، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا مع علمهم بأنه صاحب البلاغة التي ليس

وراءها مطلع، وإنَّا لنعلم قولهم في أصول العربية أنَّ ما قل في السماع إنْ كان مقبولاً

في القياس صح القياس عليه، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس يُوقَفُ على السماع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير