وقد أنتج ذلك الطوفان مدارسَ فلسفيَّةً وكلامية، زعموا أن علومهم براهين صادقة، وأدلة باهرة، وعقليات راسخة، لكن الفلسفة لم تنتج يقينًا كما زعموا، بل كانت عاملاً رئيسًا في زعزعة العقيدة، وخلخلة اليقين عند الناس، وتفاقمت الجناية على العقيدة بسبب كثيرٍ من مسائلها التي كان عليها مبنى علم الكلام، فتحوَّل الإيمان إلى مسرح للشبهات، ومرتعٍ للوساوس، التي أنتجتها براهين الفلسفة المتكافئة، وأدلتها المتضادة، فعظمت بها المصيبة، وتفاقم بسببها الداء.
وقد شهد أحد أعمدة المدرسة الكلامية والمنطقية، وهو الغزالي - رحمه الله - أن حاصل الفلسفة والكلام ضعيف، حيث قال: "المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جدًّا، مشرف على التزلزل بكل شبهة؛ بل الإيمان الراسخ إيمان العوام".
وقال الإمام القرطبي - رحمه الله - مبيِّنًا حالَ هؤلاء: "وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد".
وقال ابن تيمية: "إن جمهورهم - أي الفلاسفة وأهل الكلام - أوقع الناسَ في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قلَّ أن سمعتُ أو رأيتُ مُعرضًا عن الكتاب والسُّنَّة، مُقبلاً على مقالاتهم، إلا وقد تَزَنْدَقَ، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده".
وقد عاش هذا الجيل والذي قبله آثار "الطوفان الأول"، وأكلوا من ثماره المرة، وقد أحسنوا الظن به، حتى إن الغزالي زعم أن المنطق هو:"لباب النظر"، و"محك النظر"، و"معيار العلم"، و"القسطاس المستقيم"، و أنَّ هذا العلم آلة تعصم الذهن من الخلل في الفكر، وذهبَ إلى أنَّ من لم يتعلمه فلا ثقة في علمه.
لكنه بعد خوضه لغمار ذلك كله، إذا به يسجل في كتابه "المنقذ من الضلال" تجرِبتَه المريرة والحزينة، ويحكي قصته المثيرة، ومحنته العجيبة، بعد ردحٍ من الزمن مع هذه العلوم، مع أنه العالم النحرير، والفيلسوف الخطير!
يقول أبو حامد الغزالي: "لم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجَّة هذا البحر العميق، أتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، لا أميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، فلما خطرت لي هذه الخواطر، انقدحت في النفس، فحاولت لذلك علاجًا فلم يتيسر، فأعضل هذا الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حدَّ الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني، ثم لما أحسستُ بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله - تعالى - التجاء المضطر الذي لا حيلة له".
وقد تتابع أعلام هذه المدرسة على الاعتراف بجناية تلك الفلسفات الوافدة على دينهم وعقولهم؛ فقد قال الجويني في مرض موته: "اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة قلتُها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور".
وقال الشهرستاني بعد اكتشافه المتأخر بوار علم المنطق، وضعف الفلسفة وعلم الكلام في زراعة اليقين: "عليكم بدين العجائز؛ فهو من أسنى الجوائز".
وقال الفخر الرازي: "اعلموا أني كنت رجلاً محبًّا للعلم، فكنت أكتب في كل شيء؛ لأقف على كميته وكيفيته، سواءً كان حقًّا أو باطلاً، ولقد اختبرتُ الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآن، وأقول: ديني متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما".
هؤلاء كانوا ضحايا "الطوفان الأول" مع أنهم من أكابر العلماء، وأفاضل المتكلمين، فكيف بالشباب الأغرار الطريين، الذين يواجهون أخطر طوفانٍ عقائدي وفكري في هذا العصر؟!
ثم جاء بعده "الطوفان الثاني"، وقد كانت الأمة في أضعف حالاتها، فغزاها المستعمر عسكريًّا وثقافيًّا، وكان الطوفان عبارة عن خليطٍ من الأفكار والفلسفات الإلحادية، والشيوعية، والعلمانية، والوجودية، والقومية، فأنتج هذا الطوفان ضحايا لا حصر لهم، مع تفاوت درجات تغيرهم، منهم: رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وهدى الشعراوي، وحسين مروة، وعبدالله القصيمي، والشيوعيون والماركسيون العرب، والقوميون، والبعثيون، ونحوهم.
¥