إن القول بتحديد ليلة القدر على وجه القطع واليقين مردود من وجوه عدة ينتظمها جوابان:
أحدهما مجمل والآخر ومفصل.
فأما المجمل منهما فهو:
مما ينبغي أن يشاع بين المسلمين أن القول بتحديد ليلة القدر بليلة بعينها كليلة الثلاثاء هو من تقيد ما أطلقه الشارع، وقد قرر العلماء رحمهم الله، أن من قواعد البدع تقييد العبادة بزمان أو مكان معين أو نحوهما بحيث يوهم هذا التقييد أنه مقصود شرعا من غير ما دليل صحيح.
ونص على ذلك شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى جـ 20 / صـ 196، 197)
وكذا الشاطبي في (الإعتصام جـ 1/ 485، 486)
وأقتصر هنا على نقل ما ذكره الشاطبي ـ رحمه الله ـ طلبا للاختصار.
يقول رحمه الله (ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها. . . ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات ... فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق (الموافقه) أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا ذائدا)
وقد فصل في ذلك من المعاصرين فضيلة شيخنا الدكتور محمد الجيزاني في كتابه القيم (قواعد معرفة البدع صـ 117)
والشاهد أن: تحديد ليلة القدر على وجه القطع واليقين في ليلة بعينها كليلة الثلاثاء أو غيرها هو من تخصيص ما أطلقه الشرع بدون دليل.
أما الجواب المفصل فهو من وجوه:
الوجه الأول: في تقرير خطأ التحديد لليلة القدر بليلة بعينها، ومعارضة ذلك لدلالة القرآن والسنة القولية والعملية والتقريرية، وبيان ذلك
الوجه الثاني: مخالفة الإجماع.
الوجه الثالث: مخالفة القياس.
الوجه الرابع: مخالفة المقاصد الشرعية.
الوجه الخامس: مخالفة اللغة.
الوجه السادس: مخالفة العرف.
الوجه السابع: مخالف العقل.
وأخيرا تتمت البحث وفيه مسألتان تتم بهما الفائدة:
الأولى: هل العلم بليلة القدر من الغيب المطلق أو من الغيب النسبي.
الثانية: بعض الشبهات والجواب عنها.
وقد أمسكت عنها في المقام لضيق الوقت ولعل الله أن ييسر ذلك قريبا.
الوجه الأول: في تقرير خطأ التحديد لليلة القدر بليلة بعينها، ومعارضة ذلك لدلالة القرآن والسنة القولية والعملية والتقريرية.
ففي القرآن العظيم لم تقيد ليلة القدر بليلة بعينها، وإنما فقط ذكر أنها في شهر رمضان، والتقيد يحتاج لدليل.
يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]
قال القرطبي رحمه الله هذا نص على أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو بيان لقوله تعالى في سورة الدخان {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}.
يعني ليلة القدر. ولقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. (الجامع لأحكام القرآن جـ 2/ 239)
وأما ما ورد في السنة النبوية فقد جاء على أربعة صور.
الأولى: أنها في رمضان لا في غيره.
الثانية: أنها في العشر ألأواخر لا في العشر الأولى ولا في العشر الوسطى.
الثالثة: أنها في الأوتار من العشر الآواخر.
الرابعة: أنها ليست في ليلة بعينها.
ومن جملة ما أورده البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما ما أخرجاه من حديث بن عمر رضي الله عنهما عن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطئت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرياها في السبع الآواخر».
¥