[المدارس والمعاهد العلمية]
ـ[أبو زارع المدني]ــــــــ[25 - 12 - 08, 05:13 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
[المدارس والمعاهد العلمية]
د. مصطفى السباعي
المصدر: كتاب " مقتطفات من كِتَاب: من روائع حضارتنا"
وقد بلغتْ المدارس التي قامتْ على الأوقاف الكثيرة، التي تَبَرَّعَ بها الأغنياء، مِن قادة وعلماء، وتجار وملوك وأمراء - منَ الكثرة حَدًّا بالغًا، وحسبك أن تعلمَ أنه لم تخلُ مدينة ولا قرية في طول العالم الإسلامي وعرضه مِن مدارس مُتَعَدِّدة، يُعلِّم فيها عشرات منَ المعلِّمينَ والمُدَرِّسينَ.
كان المسجدُ هو النَّوَاة الأولى للمدرسة في حَضَارتنا، فلم يكنْ مكان عبادة فحسب؛ بل كان مدرسة يَتَعَلَّم فيها المسلمون القراءة، والكتابة، والقرآن، وعلوم الشريعة، واللغة، وفروع العُلُوم المختلفة، ثم أقيمَ بجانب المسجد الكُتَّاب، وخُصِّص لتعليم القراءة، والكتابة، والقرآن، وشيءٍ منَ عُلُوم العَربيَّة والرِّياضة، وكان الكُتَّاب يُشْبه المدرسة الابتدائيَّة في عصرنا الحاضر، وكان منَ الكثرة حيث عدَّ ابن حوقل ثلاثمائة كتَّاب في مدينة واحدة من مدن صقلِّية، وكان منَ الاتساع أحيانًا بحيث يضم الكتَّاب الواحد مئات وآلافًا منَ الطلاب، ومما يذكر في تاريخ أبي القاسم البلخي أنه كان له كتَّاب يَتَعَلَّم به ثلاثة آلاف تلميذٍ.
ثم قامتِ المدرسة بجانب الكتَّاب والمسجد، وكانتِ الدِّراسة فيها تُشبه الدِّراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر، كان التَّعليم فيها مَجَّانًا ولمختلف الطَّبَقات، وكانتِ الدِّراسة فيها قسمينِ: قسمًا داخليًّا للغرباء والذين لا تساعدهم أحوالهم المادِّية على أن يعيشوا على نفقات آبائهم، وقسمًا خارجيًّا لِمَن يريد أن يرجعَ في المساء إلى بيت أهله وذويه، أمَّا القسم الداخلي فكان بالمَجَّان أيضًا، يهيَّأُ للطالب فيه الطعام والنوم والمطالَعة والعبادة، وبذلك كانت كلُّ مدرسة تحتوي على مسجد، وقاعات للدِّراسة، وغُرَف لنوم الطلاَّب، ومكتبة، ومطبخ، وحَمَّام، وكانتْ بعض المدارس تحتوي فوق ذلك على ملاعب للرِّياضة البَدَنيَّة في الهواء الطَّلْق، ولا تزال لدينا حتى الآن نماذج من هذه المدارس التي غمرتِ العالَم الإسلامي كله، ففي دِمَشق لا تزال المدرسة النُّوريَّة التي أنشأها البطل العظيم نور الدين الشهيد، وهي الواقعة الآن في سوق الخَيَّاطين، ولا تزال قائمة تعطينا نموذجًا حيًّا لهندسة المدارس في عصور الحَضَارَة الإسلاميَّة، لقد زارها الرَّحَّالة ابن جبير في أوائل القرن السابع الهجري، فأعجب بها وكتب عنها، ونَجِد مثلها في حَلَب في مدارس الشَّعبانيَّة والعُثمانية والخسروية، حيث لا يزال فيها للطلاب غرف يسكنونها وقاعات للدراسة، وقد كانوا من قبل يأكلون فيها، ثم عدل عن ذلك إلى راتب معلوم في آخر كل شهر يُعطَى للطلاب المنتسبينَ إليها.
وأَظْهَر مثالٍ لهذه المدارس الجامعُ الأزهر، فهو مسجدٌ تقام في أبهائه حلقات للدراسة، تحيط به من جهاته المتعددة غرف لسكن الطلاب، تُسَمَّى بالأروقة، يسكنُها طلاَّب كلِّ بلدٍ بجانب واحد، فرِوَاق للشاميين، ورِوَاق للمَغَاربة، ورِوَاق للأتراك، ورِوَاق للسُّودانيينَ، وهكذا.
وجديرٌ بنا - ونحن نَتَحَدَّث عنِ المدارس - أن نَتَحَدَّث عنِ المُدَرِّسينَ وأحوالهم ورَوَاتبهم، لقد كان رؤساء المدارس من خيرة العلماء وأكثرهم شُهرة، وإنَّا لَنَجد في تاريخ مشاهير العلماء المدارس التي درسوا فيها، فالإمام النووي، وابن الصلاح، وأبو شامة، وتقي الدين السُّبْكي، وعماد الدِّين بن كثير، وغيرهم ممَّن كانوا يدرسون في دار الحديث بدِمَشق، والغزالي، والشِّيرازي، وإمام الحَرَمَيْن، والشَّاسي، والخطيب، والتبريزي، والقزويني، والفيروز آبادي، وغيرهم ممَّن كانوا يدرسون في المدرسة النِّظاميَّة ببغداد وهكذا، ولم يكنِ المُدَرِّسُون في صَدْر الإسلام يأخذون أجرًا على تعليمهم، حتى إذا امْتَدَّ الزمنُ، واتسَعَتِ الحَضَارَة، وبُنِيَتِ المدارس، وأوقف لها الأوقاف - جُعِلَ للمدرسين فيها رواتِب شهريَّة.
¥