تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم يكنْ يجلس للتدريس إلاَّ مَن شهد له الشُّيوخ بالكفاءَة، وقد كان الأمر في عصر الإسلام الأول أن يسمح الشيخ للتلميذ بالانفصال عن حلقته وإنشاء حلقة خاصَّة، أو أن يعهدَ برئاسة الحلقة إليه بعد وفاته، فإن فَعَل غير ذلك كان محل نقدٍ، وتَعَرَّضَ للأسئلة الشَّديدةِ المُحْرِجة، هكذا كان الأمرُ، فلمَّا أُنْشِئَتِ المدارس جُعل للمُتَخرِّجين فيها إجازات علميَّة يعطيها شيخ المدرسة، وهي تُشْبِه الإجازات العلميَّة في عصرنا، ولم يكن يسمح للأطباء بممارسة الطب إلاَّ بعد نوال هذه الشَّهَادة مِن كبيرِ أطباء المدْرسة.

وكان للمُدَرِّسين شعارٌ خاصٌّ يُفَضِّلهم عن غيرهم من أرباب المِهَن، كان شعارهم في عهد أبي يوسف عمامة سوداء وطَيْلسانًا، وشعارهم في عهد الفاطميين عمامة خضراء وكسوة مذهَّبة، تَتَكَوَّن من ست قطع، أهمها القلنسوة والطيلسان، أما الجُبَّة واختصاص العلماء والمدرسين بها فقد بدأ ذلك في عهد الأُمَويين، وكانت ملابسهم في الأندلس تختلف قليلاً عن ملابس العلماء والمدرسين في المشرق، وقد أخذ الغَربيون عن مدرسي الأندلس زيَّهم، فكان هو أصل الزِّيِّ العلمي المعروف الآن في الجامعات الأوروبيَّة.

وكان للمُعَلِّمين نقابة كنقابة الطالبين، ونقابة الأشراف، ونقابات بعض الحِرَف والمِهَن الصناعيَّة في تلك العصور، وكان جماعة المدرسين هم الذين يختارون النَّقيب، وما كان يَتَدَخَّل السلطان إلاَّ إذا وقع خلاف بين الأعضاء فيصلح بينهم.

كانتِ المدارس على هذا - وخاصَّة المعاهد العليا - تملأ مدن العالم الإسلامي مِن أقصاه إلى أقصاه، ويذكر التَّاريخ بكثيرٍ منَ الإكبار والإعجاب نَفَرًا من أمراء المسلمين، كانت لهم اليد الطولى في إنشاء المدارس في مختلف الأمصار:

منهم صلاح الدِّين الأيوبي: فقد أنشأ المدارسَ في جميع المُدُن التي كانت تحت سلطانه في مصر ودِمَشق والمَوْصِل وبيت المَقْدس.

ومنهم نور الدِّين الشهيد: الذي أنشأ في سُورِيَة وحدها أربعة عشر معهدًا، منها ستَّة في دِمَشق، وأربعة في حَلَب، واثنان في حماة، واثنان في حِمْص، وواحد في بَعْلَبك.

ومنهم نظام الملك الوزير السُّلجُوقي العظيم: الذي ملأ بلاد العراق وخُرَاسان بالمدارس حتى قيل فيه: إن له في كل مدينة بالعراق وخُرَاسان مدرسةً، وكان يُنْشِئ المدارس حتى في الأماكن النائية؛ فقد أنشأ في جزيرة ابن عمرو مدرسةً كبيرةً حسنةً، وكلما وجد في بلدة عالمًا قد تميَّز وتبحَّر في العلم بنى له مدرسةً، ووقف عليها وَقْفًا، وجَعَلَ فيها دارَ كُتُب.

وقد كانتْ نظاميَّة بغداد أولى المدارس النِّظاميَّة وأهمها، درَّس فيها مشاهير علماء المسلمينَ فيما بين القرن الخامس والتاسع الهجري، وقد بلغ عدد طلابها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصُّنَّاع فيها، وكلُّهم يتعلَّمون بالمَجَّان، وللطالب الفقير فوق ذلك شيءٌ معلوم يَتَقاضاه منَ الرِّيع المُخَصَّص لذلك.

وبجانب هؤلاءِ العظماء كان الأمراء والأغنياء والتجَّار يَتَسَابقون في بناء المدارس، والوَقْف عليها بما يضمن استمرارها، وإقبال الطُّلاَّب عليها، وكثيرون جدًّا همُ الذين جعلوا بيوتهم مدارس، وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وَقْفًا على طلاب العلم الدارسينَ فيها.

وكانتِ المدارس مُتَعَدِّدة الغايات، فمنها مدارس لتدريس القرآن الكريم وتفسيره وتحفيظه وقراءاته، ومنها مدارس للحديث خاصَّة، ومنها - وهي أكثرها - مدارس للفقه، لكل فقه مدارس خاصَّة به، ومنها مدارس للطبِّ، ومنها مدارس للأيتام، وها هو النعيمي في كتابه "الدارس في تاريخ المدارس" - وهو من علماء القرن العاشر الهجري - يذكر لنا ثبتًا بأسماء مدارس دمشق وأوقافها، ومنه نعلم أنه كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبعُ مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معًا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة، هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلَّم فيها الناس، وإذا ذكرنا مع هذا ما كان عليه الغَربيون في تلك العُصُور نفسها من جَهَالة مطبقة، ومن أمية مُتَفَشِّية حتى لم يكن للعلم مأوى إلا أديِرَة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير