الرُّهبَان، وهي مقصورةٌ على رجال الكَهَنُوت فقط - أدركنا أيَّة عظمة بَلَغَتْها أمتنا في أوج مجدها، وكم كانت حَضَارتنا رائعةً في تاريخ المؤسَّسات الاجتماعية والمعاهِد العلميَّة، وكم كان للإسلام من يد في نَشْر العلم، ورفع مستوى الثَّقافة العامَّة، وتيسير سبلها لسائر أبناء الشَّعب.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة: "فيها كمل بناء المدرسة المستنصريَّة ببغداد، ولم يُبْنَ مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد"، إلى أن قال: "ووُقِفَتْ خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها".
المستشفيات والمعاهد الطِّبيَّة
منَ المبادئ التي قامتْ عليها حَضَارتنا، جمعها بين حاجة الجسم وحاجة الرُّوح، واعتبارها العناية بالجسم، ومطالبه ضرورية لتحقيق سعادة الإنْسَان وإشراق روحه، ومنَ الكلمات المأثورات عن واضع أسس هذه الحَضَارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ لجسدك عليك حقًّا))؛ رواه البخاري، ومسلم، ومِنَ الملاحَظ في عبادات الإسلام تحقيقها أهم غرض من أغراض علم الطب، وهو حِفظ الصحة، يُعَرِّف الطبَّ "علي بن عباس" بأنه: "علم يبحث في حفظ الصِّحَّة على الأصحاء، وردها على المرضى"، فالصَّلاة والصيام والحج وما تَتَطَلَّبه هذه العبادات من شروط وأركان وأعمال - كلها تحفظ للجسم صحته ونشاطه وقوته، وإذا أَضَفْنا إلى ذلك مقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها، وترغيبه في طَلَب العلاج المكافِح لها - عُلِمَتْ أسسٌ قوية قام عليها بناء حَضَارتنا في ميدان الطب، ومبلغ ما أفاده العلم من حَضَارتنا في إقامة المشافي والمعاهد الطِّبية، وتخريج الأطباء الذين لا تزال الإنْسَانية تفخر بأياديهم على العلم عامَّة والطب خاصَّة.
عَرَفَ العَرب مدرسة جنديسابور الطبية التي أنشأها كسرى في منتَصَف القرن السادس الميلادي، وتخرج فيها بعض أطبائهم، كالحارث بن كلدة الذي عاش في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يشير على أصحابه بالتداوي عنده حين تنتابهمُ الأمراض، وفي عهد الوليد بن عبدالملك أُنشئ أول مستشفى في الإسلام، وهو خاصٌّ بالمجذومين، وجعل فيه الأطباء، وأجرى لهمُ الأرزاق، ثم تتابع إنشاء المشافي، وقد كانت تُعرَف باسم (البيمارستانات)، أي: دور المرضى.
وكانت المستشفيات نوعين: نوعًا متنقِّلاً، ونوعًا ثابتًا.
أما المتنَقِّل: فأوَّل ما عُرف في الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوَة الخندق، إذ ضرب خيمة للجرحى، فلمَّا أصيب سعد بن معاذ في أكحله - والأكحل: عرق في الذراع يُفصَد - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب))، وهو أول مستشفى حربي متنَقِّل في الإسلام، ثم توسَّع فيه الخلفاء والملوك من بعدُ، حتى أصبح المستشفى المتنقِّل مُجَهَّزًا بجميع ما يحتاجه المرضى، من علاج وأطعمة وأشربة، وملابس وأطبَّاء وصيادلة، وكان ينقل من قرية إلى قرية في الأماكن التي لم يكن فيها مستشفيات ثابتة.
وأمَّا المستشفيات الثابتة: فقد كانتْ كثيرةً، تفيض بها المدن والعواصم، ولم تخلُ بلدة صغيرة في العالم الإسلامي يومئذٍ من مستشفى فأكثر، حتى إن قرطبة وحدها كان فيها خمسون مستشفى.
وتنوَّعَتِ المستشفيات، فهناك مستشفيات للجيش يقوم عليها أطباء مُتَخَصِّصون، عدا عن أطباء الخليفة والقواد والأمراء، وهناك مستشفيات للمساجين، يطوف عليهمُ الأطباء في كل يوم، فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة.
وهناك مَحَطَّات للإسعاف كانت تقام بالقُرب منَ الجوامع والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور، ويُحَدِّثُنا المقريزي أن: "ابن طولون حين بنى جامعَه الشهير في مصر، عمل في مؤخره مِيضأة وخزانة شراب - أي: صيدلية أدوية - وفيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة، لمعالجة مَن يصابون بالأمراض منَ المُصَلِّينَ".
¥